الاقتصاد ثمرة التربية والاختيار المهني السليم
لو تأمل المرء في الماضي لوجد أن المهن السائدة في المجتمعات السابقة محدودة جدا, وتكاد لا تتعدى أصابع اليد الواحدة، والنشاط الاقتصادي بمجمله يقوم على هذه المهن, وكان الناس ينجزون وينفذون أمورهم بأنفسهم دون أن يكون هناك من ينفذ الأشياء بالنيابة عنهم سواء كان ذالك بأجر أو دون أجر. وهذا الوضع كان سائداً في المجتمعات البسيطة في تركيبها, ولا يزال، فالرعي، والزراعة, والصناعات البدائية كانت بمثابة الأنشطة الرئيسة التي يعتمد عليها الناس في حياتهم، لكن مع تقدم المجتمعات وتطورها واتساع الأنشطة برزت الحاجة إلى وجود متخصصين في المهن كافة يزاولون هذه المهن لمن يحتاج إليها مقابل أجر يدفعه صاحب العمل, أو من يحتاج إلى إنجاز هذا النشاط لمصلحته. ومع تقدم العلم وتراكم المعرفة وتنوع مشارب العلم، وكثرة المكتشفات والمخترعات ودخول الإنسان عصر الصناعة الحديثة زادت المهن، وتشعبت، وأصبحت من الضروري العناية الفائقة بمن توكل إليهم مهمات إنجاز هذه الأعمال، ولم يعد من المقبول، ولا من المفيد على الصعيد الفردي أو الاجتماعي متمثلاً في اقتصاده العام أن تترك المهن أو الأعمال مفتوحة لأي فرد أن يزاولها, وهو لا تتوافر فيه الشروط اللازمة, لأن وضعا كهذا تترتب عليه خسارة فادحة لصاحب العمل, أو من يطلب الخدمة, ومن ثم تنسحب الخسارة على الاقتصاد الوطني لو ترك الأمر على عواهنه، أو لو ترك الحبل على الغارب, كما يقول المثل. ووضعت بعض الدول أدلة مفصلة للمهن ومتطلبات وشروط كل مهنة, كما أوجدت اختبارات ومقاييس تساعد على التشخيص والاختيار للمتقدمين للوظائف والأعمال. تساءلت ما الذي يحكم جودة الأداء المهني فألفيت أن أموراَ كثيرة تمثل دعامات أساسية لأي مجتمع كي ينشئ عليها أجياله إذا ما أراد المجتمع أن يبدع، ويكون إنتاجه متقناً, وذا قيمة على المستويين المحلي أو العالمي. أولى هذه الركائز هي الثقافة الاجتماعية المحفزة على العمل، والعطاء، والإنجاز, وبمستوى عالٍ من الجودة، ولذا نجد الشارع يحث على العمل, والتفاني, والإخلاص "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون" ومن حث الشارع على العمل" لو قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها" "هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور"وهذا جزء من كمٍ كبير من مقومات الثقافة الإسلامية الداعية إلى العمل، والسعي في الأرض, ترى هل توجد مجتمعات ذات ثقافة عامة, أو ثقافات خاصة لا تشجع أو تحفز على العمل وتحض عليه؟ أنا شخصياً لا أعتقد ذلك, ولم أقف على شيء من هذا القبيل, لكن واقع بعض المجتمعات الغنية في مواردها الطبيعية, وفي ثرواتها, وفي الوقت نفسه فقر أبناء هذه المجتمعات قد يفسر من خلال ركيزة الثقافة التي تشكل أساسا رئيسا من أسس العمل والإنتاج. المتخصصون في التربية وعلم النفس اهتموا اهتماماً كبيراً بالمجال المهني والأدوار التي يمارسها الأفراد وتأثر هذه الأدوار ببعض العوامل، وما من شك أن الثقافة تعد أحد هذه العوامل، لكن عوامل أخرى مهمة جداً كشفت عنها البحوث والدراسات, وهذه العوامل مرتبطة بالأفراد وخصائصهم من قدرات، وميول، ورغبات، وقيم اجتماعية, وفردية ترغب في هذا العمل, أو ذاك, أو تنفر, وتبعد عنه. جون هولاند وضع نظرية في المجال المهني يحاول من خلالها تفسير الاختلافات في اختيار الناس وظائفهم، وأعمالهم، فالقدرة وحدها ليست كافية للقيام بوظيفة أو عمل من الأعمال على أكمل وجه, إذ لا بد أن تصاحب القدرة رغبة, وميل لدى الفرد، لكن هذه أيضاً ليست كافية ما لم تكن هناك حوافز تبعث الهمم وتحركها، وبناء عليه ينشط الفرد وينجز, وعلى مستوى عال من الإنجاز والعطاء. جون هولاند صنف شخصيات الأفراد إلى ستة أنواع, أولها الشخصية الواقعية، الشخصية الاجتماعية، الشخصية المغامرة، الشخصية التقليدية المتمسكة بما هو مألوف, ومتعارف عليه، الشخصية ذات الميول الفنية، وأخيرا الشخصية المستقصية والمحققة في الأمور من خلال التعمق في الأشياء وليس الاعتماد على ظاهرها، أو كما تبدو. الاختيارات المهنية لا تعتمد على الركائز السابقة فقط، بل لا بد من الإشارة إلى دور العائلة في التأثير في أبنائها في اختياراتهم المهنية، فالوالدان أو أبناء الأسرة الآخرون قد يؤثرون سلباً أو إيجاباً فما يختاره الفرد من مهنة أو عمل, إذ قد يزينون له مهنة أو عملا من الأعمال أو قد يكرهون في نفسه مهنة أخرى دون أخذ في الحسبان لشخصية الابن أو الابنة, ولا قدراته وميوله ورغباته، وقابلت أفراداً انخرطوا في مهن أو أعمال لا برغبة ومحبة منهم، ولكن بتأثير ودفع من أسرهم، ومن هؤلاء من ظل يعاني طول حياته نفسياً، ومادياً نظراً لأنه لا تتوافر لديه إحدى الخصائص اللازمة لهذه المهنة. المجتمع بدوره يؤثر في اختيارات الأفراد مهنهم, وذلك من خلال تصنيفه المهن من حيث قيمتها الاجتماعية، ولذا فالاتجاهات السلبية أو الإيجابية نحو المهن تتأثر بالتصنيف الاجتماعي. وإزاء هذا الوضع المركب من العوامل المؤثرة في اختيارات الأفراد مهنهم لا بد من التأكيد على الدور الذي تلعبه التربية من خلال مؤسساتها المختلفة سواء المدارس، أو الأسرة، أو الإعلام, خاصة أننا في زمن تتشعب فيه المهن وتكثر نظراً للتقدم المعرفي والتقني الهائل, فالتجارة كمهنة تزاول في السابق بصورة بسيطة لم تعد كما كانت, بل أصبح لها فروعها من إدارة أعمال، محاسبة، تسويق، دعاية، وتفاوض، عرض, وتنسيق، وهذا الواقع ينسحب على بقية الأعمال، والمهن الأخرى. إن دور التربية يتمثل في الكشف عن الميول أو الرغبات والقدرات المتوافرة لدى الأفراد ومن ثم تنمية هذه الاستعدادات والارتقاء بها إلى المستوى الذي يزيد من الإنتاجية ويجعلها في مستوى متقدم من الجودة, خاصة أننا في زمن المنافسة مع الآخرين, ما يعني ضرورة سعينا الدؤوب إلى وضع القدرات والطاقات البشرية في أماكنها الصحيحة إذا ما أردنا أن نرفع من الإنتاجية كماً وكيفاً, ومن ثم المحافظة على اقتصاد مزدهر قادر على مواجهة الصعوبات، والمشكلات الطارئة التي لم تعد مقصورة على مجتمع دون غيره من المجتمعات.