البرجوازيون العرب
أحدث الاندفاع غير المسبوق نحو سوق الأسهم السعودية عام 2005 ثم انهيارها مطلع عام 2006 شرخا كبيرا في البيئة الاجتماعية والاقتصادية للسعودية, وظهرت متغيرات جديدة. فقبل تلك القصة الحزينة للسوق كانت البنية والأوضاع الاقتصادية واضحة والسيطرة عليها صريحة أيضا. كان يمكن للدولة أن تحدد وجهة الاقتصاد بتعديلات بسيطة في مستويات الإنفاق مع بعض الرسوم الحكومية, إضافة إلى إجراءات صارمة تجاه البنوك. كان الوضع الطبيعي لذلك أن تزداد الطبقة المتوسطة, وتتسع شريحتها بينما تتقلص الطبقتان الأخريان وبدت سيطرة مؤسسات الدولة صريحة على جميع أوجه النشاط الاجتماعي والاقتصادي, وكانت مراقبة النظام الاقتصادي أمرا ميسورا إلى حد بعيد, وتكفي إحصائيات بسيطة عن مستويات المعيشة والإيجارات وأسعار الحديد والأرز والحليب لنعرف أين نحن بالضبط. لكن تلك الحال تغيرت بعد انهيار سوق الأسهم عام 2006. وللتعامل السليم مع الوضع الراهن سواء اقتصاديا أو اجتماعيا لابد لنا من فهم البيئة الاقتصادية الجديدة.
هناك العديد من المقالات لكتاب متخصصين أشاروا إلى تغيرات خطيرة تحدث في الطبقة المتوسطة فهي بتعبير العديد منهم بدأت تختفي. ومع التحفظ الشديد على عبارة "بدأت تختفي" إلا أن الرسالة الواضحة الدلالة أن هذه الطبقة – كطبقة – تأثرت بالأحداث الاقتصادية أكثر من غيرها. فقد تحول عدد كبير ممن كان مصنفا ضمن هذه الطبقة المتوسطة إلى الطبقة الفقيرة, وذلك بسبب تراكم الديوان أو الخروج من الوظيفة أو التعرض لخسارة كبيرة جدا. في المقابل ظهرت طبقة جديدة في الاقتصاد السعودي، طبقة كانت ضمن المتوسطة أو الغنية والآن أصبحت فاحشة الثراء. إنهم البرجوازيون. فالبرجوازية Bourgeoisie مصطلح فرنسي يعبر عن طبقة "رسمية" في المجتمع الفرنسي ظهرت في القرنين الخامس والسادس عشر، ثم تطورت الكلمة مع تطور الأحداث الاقتصادية والسياسية في المجتمع إبان تلك الفترة ليدل معناها على طبقة التجار، وهي طبقة كان لها تأثر خطير على الساحة الاقتصادية والسياسية في العالم ذلك, لأنها طبقة متسلقة فلم تكن نبيلة الأصل, وانسلخت من ماضيها. طبقة تجيد القفز على الحواجز وترى أنها فوق النظام بل صانعة له. هذه الطبقة ظهرت بقوة على ساحتنا الاقتصادية اليوم. هم محدثو نعمة، غير منتجين، بل سارقو جهد الناس باسم المساهمات، تراهم معنا يصرخون ضد الأسعار وهم من يقوم بتخزين السلع وممارسة أعمال الاحتكار. كبار وغير مسجلين عند الوزارات من الكبار. ترصد آثارهم في أسعار الشعير والحديد والدقيق وكل ما يمس الطبقة الوسطى لكن لا أحد يجدهم والكل يشتكي منهم.
إن قدرة البرجوازيين على السيطرة على القرار خطيرة جدا ولديهم مقدرة في توريط من يجب أن يحمينا من شرهم. فالطب مهنة لابد لها من طبيب مشرف لديه قوة قرار مستقلة عن تأثير الملاك ليعمل المجمع الطبي في صالح المهنة وشرفها ليأتي قرار مجلس الشورى ويكف يد الطبيب ويضع يد التاجر على هذه المهنة فهل تأثر قرار مجلس الشورى بقوى التجارة والتجار؟ تتذبذب أسعار الشعير بطريقة مدروسة كما تتذبذب أسعار الأسهم وكأن من يلعب بنا في سوق الأسهم يجد بعض الوقت ليلهو في سوق الشعير. فخبر رفع الإعانة أو خفضها يكفي لبدء عمليات مدروسة لرفع أو تخفيض السعر حتى يصنع السهم (أقصد الشعير) مستوى سعريا جديدا ثم يقفز مع الخبر. وإذا كانت هيئة سوق المال تائهة بسبب صعوبات تقنية في اكتشاف عمليات التلاعب فكيف نجد مبررا لوزارة الزراعة بتبرئة المتلاعبين الواضحين. إنها يد التجار البرجوازيين القادرين على توريط ضباط الأمن في عمليات مساهمات وهمية. ونبقى مع الحديد وممارسات سوق الأسهم من تصريف وتجميع. تجميع لغرض الضغط على وزارة التجارة لفتح التصدير وقوائم مالية متلاعب بها ولما اقترب الخبر بدأت عمليات رفع للسعر في موجة تصريف ساخنة. إنهم في كل مكان كما الجراد إنهم البرجوازيون. ليس في يدهم قرار لكنهم يصنعونه.
ومع كل الألم الذي تصنعه هذه الطبقة الطفيلية غير المنتجة إلا أن الأمل لا يزال معقودا على أن تتخذ حكومة خادم الحرمين الشريفين ملك الإنسانية – حفظه الله - قرارات أكثر صرامة لتحد من تصرفاتهم وآثارهم الخطيرة. وفي هذا المسار استبشرت ومثلي الكثير ممن ذاق مرارة التورط مع هؤلاء الطفيليين بقرار مجلس الوزراء هذا الأسبوع لعمل آلية لجنة المساهمات العقارية لضمان حفظ حقوق المساهمين وتصفية هذه المساهمات. إن في هذا القرار إنصافا حقيقيا لأمثالي قاطني الطبقة الوسطى ممن تلاعب بالأموال وأهدر الثروات ولم يزل "يسرح ويمرح" بل ويتعالى على البسطاء بأموالهم. ومع التصفيق الحار للقرار فإني أخشى يد التجار وأتمنى أن نسمع قريبا قرارات مماثلة تحد من التلاعب في أسعار السلع الأساسية باسم التمويل والتورق فهناك أكبر معاقل البرجوازيين وأكثرهم دهاء.