يا زمان الجاسوسية!

لطالما كان الحديث مثيراً عن حكايات وأساليب أشهر أجهزة المخابرات العالمية خلال القرن الماضي, للدرجة التي أنتجت معها الكثير من الأفلام الوثائقية والسينمائية عن شخصيات اعتبرت رموزاً للتجسس في مختلف بقاع الأرض, وما زال العالم حتى اليوم يتابع بشغف نتاج الفن السابع عن هذه الظاهرة, فمن منا لم يتابع أشهر أفلام سلسلة "جيمس بوند" مثلاً وينبهر بالتفاصيل الصغيرة فيها كنوعية الأجهزة المستخدمة للتجسس والطرق الشهيرة لنقل المعلومات السرية تحت مظلة من الحذر الشديد, فالغلطة في عملية كهذه تعني الموت لا محالة.
وأتذكر أنني كنت شغوفاً في طفولتي بقراءة الروايات البوليسية والمخابراتية أو تلك التي ترد فيها معلومات دقيقة عن عملية تشفير الرسائل, وفتح الأبواب المغلقة والكثير من المعلومات المشابهة, وما زلت أتذكر جيداً ملامح الدهشة على وجه والدي رحمه الله وأنا في حوالي التاسعة من عمري عندما قدمت له ورقة عبارة عن رسالة مكتوبة بالحبر السري, طالباً منه قراءتها ليقلب الورقة بين يديه باحثاً عن حرف واحد دون جدوى, ولكم أن تعلموا أن ذلك الحبر لم يكن سوى عصير ليمون قمت بتعبئته في قلم الحبر بعد غسله جيدا, بحيث لا يتمكن أحد من قراءة المكتوب به إلا بعد تعريض الورقة لحرارة مكواة الملابس ليتحول لون الخط غير الظاهر إلى البني, وهي حيلة طفولية تعلمتها من إحدى الروايات.
هذه التفاصيل البسيطة التي كانت تعد مثيرة جداً فيما مضى لم تعد لها أي قيمة اليوم, فلم تعد أجهزة المخابرات بحاجة إلى تدريب جواسيسها في الدول الأخرى على تشفير الرسائل بالحبر السري وتخبئة (نيجاتيف) الصور في أماكن لا تصل إليها أيدي مفتشي المطارات لتنتقل من بلد إلى آخر في ظل ثورة الاتصالات العالمية وفي مقدمتها شبكة الإنترنت, التي وفرت على تلك الأجهزة الكثير للدرجة التي أصبحت معها الأجهزة التقنية الدقيقة والغريبة التي كان تستخدم للتجسس تباع في محال السوبر ماركت, كالقلم المزود بكاميرا تصوير فيديو والساعة المزودة بمسجل صوتي وغيرهما.
بالأمس قرأت خبراً يفيد بأن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) ووكالة الأمن القومي الأمريكية دشنتا صفحات خاصة بهما على موقع facebook الاجتماعي المعروف، وذلك سعيا إلى تجنيد عمــلاء لهما، وقد ذكر مركز أمريكي متخصص في الدراسات الأمنية والاستخباراتية، أن وكالات الاستخبارات الأمريكية تستخدم مثل هذه المواقع في تجنيد "جواسيس أونلاين", وقد اعترفت وكالة المخابرات المركزية بحسب الخبر بأنها تمكنت من توظيف عدد من الضباط الشباب في دول مختلفة من العالم للعمل لحسابها إضافة إلى أنها تلقت أخيرا نحو 150 ألف طلب للعمل لصالحها من جميع دول العالم!
يتضح مما سبق أن زمن الجاسوسية التقليدية ولى إلى غير رجعة, وأن العالم بأجمعه بات مكشوفاً تماماً بواسطة التقنية وبرامجها التي باتت في متناول الجميع.
إنني أتخيل مصير أشهر الجواسيس الذين عرفهم التاريخ لو عاشوا اليوم, وكيف أنهم سيصبحون "بلا أي لازمة", وأتساءل عن إن كنا سنستمتع بالإثارة الموجودة في مسلسل "رأفت الهجان" لو أن أحداثه دارت في هذا العصر أم أننا سننظر إليه باستهجان وهو يجازف بحياته متنقلاً بين مصر وإسرائيل من أجل تصوير مفاعل نووي! كان يمكنه تحديد مكانه بدقة عبر برنامج "قوقل إيرث" وهو مستلقٍ على أريكته!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي