"أوبك" من مؤتمر فيينا إلى مؤتمر وهران

في الفترة من 9/9/2008 إلى 17/12/2008 عقدت منظمة الأقطار المصدرة للنفط "أوبك" ثلاثة مؤتمرات بحثت فيها أسباب تراجع أسعار النفط, حيث وصل سعر سلة خامات "أوبك" إلى أقل من 100 دولار للبرميل في أيلول (سبتمبر) 2008 بعد أن كانت أسعار النفط قد تجاوزت 147 دولارا للبرميل في منتصف تموز (يوليو) 2008. ولوقف هذا التراجع قررت المنظمة في مؤتمرها الذي عقد في فيينا بتاريخ 9/9/2008 تخفيض إنتاج دول المنظمة بمقدار 520 ألف برميل يوميا, وأوضحت المنظمة في البيان الذي أصدرته بعد هذا المؤتمر أن هذا القرار يعني في الواقع العودة إلى حصص الإنتاج التي كانت معتمدة في أيلول (سبتمبر) 2007, أي 28.800 مليون برميل يوميا باستثناء إندونيسيا التي علقت عضويتها في المنظمة.
جدير بالذكر هنا أن دول المنظمة كانت قد تجاوزت تلك الحصص في محاولة منها لكبح أسعار النفط من مواصلة الارتفاع المطرد. وعندما أجرت المنظمة التخفيض المذكور آنفا لم يكن لديها رؤية محددة للنطاق السعري الذي تبغيه الدول الأعضاء, بيد أن وزراء النفط في بعض الدول الأعضاء مثل فنزويلا وإيران صرحوا آنذاك بأن 100 دولار هو السعر المناسب, بينما كانت الوكالة الدولية للطاقة تعتبر هذا السعر مرتفعا. لم يؤد القرار المذكور إلى وقف أسعار النفط عن التراجع, فوصل سعر سلة خامات "أوبك" في 21/10/2008 إلى 64.63 دولار للبرميل, ولمواجهة هذا التدهور في الأسعار قررت منظمة "أوبك" في اجتماع مؤتمرها الذي عقد في فيينا بتاريخ 24/10/2008 إجراء تخفيض آخر أكبر من التخفيض السابق, حيث قررت تخفيض إنتاج دول المنظمة بمقدار مليون و500 ألف برميل يوميا اعتبارا من الأول من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 2008, بحيث يصبح الإنتاج الإجمالي 27.200 مليون برميل بعد أن كان 28.800 مليون برميل يوميا.
وعلى الرغم من هذا التخفيض واصلت أسعار النفط هبوطها حيث وصل سعر سلة خامات "أوبك" في 12/11/2008 إلى 47.73 دولار للبرميل, وعقد وزراء النفط والطاقة في دول "أوبك" اجتماعا تشاوريا (غير رسمي) في القاهرة بتاريخ 29/11/2008 لتبادل الرأي حول أسباب استمرار تراجع الأسعار وكيفية معالجتها, ولم يتخذ الوزراء أي قرار في هذا الاجتماع, لكن عبد الله البدري أمين عام "أوبك" صرح بأن المنظمة ستقرر في اجتماع وهران إجراء تخفيض بكمية يعتد بها في ضوء مخزونات النفط المرتفعة, وأضاف قائلا: سيكون من مصلحة المنتجين في "أوبك" وخارجها التحرك لتعزيز الأسعار التي هبطت أكثر من 60 في المائة خلال أقل من خمسة أشهر.
من ناحية أخرى, ذكر مندوبو بعض الدول الأعضاء في المنظمة أن معظم أعضاء "أوبك" بمن فيهم المنتجون الخليجيون وعلى رأسهم السعودية, يرون ضرورة لخفض ما بين مليون و1.5 مليون برميل يوميا أخرى من الإنتاج, ولكن لعمل ذلك فإن السعودية تريد أن ترى دليلا على أن كل الدول الأعضاء في "أوبك" تلتزم بحصصها من التخفيضات, حيث أظهر واقع السوق النفطية أن بعض دول "أوبك", وفي طليعتها إيران, لم تلتزم بقرار التخفيض التزاما كاملا, ما كان له أثر سلبي في أسعار النفط, لأن الأرقام تظهر وجود ضرورة لسحب 1.5 مليون برميل إلى مليوني برميل من السوق.
وكان عبد الله البدري أمين عام منظمة "أوبك" قد صرح بأن مستوى التزام أعضاء "أوبك" يزيد على 80 في المائة, مضيفا أن هذا الرقم يستند إلى تقدير واحد. ومن ناحية أخرى أظهر مسح أجرته وكالة رويترز أن دول "أوبك" لم تنفذ سوى 66 في المائة من تخفيض الإنتاج المحدد بموجب قرارها السابق.
وإزاء استمرار تراجع أسعار النفط صرح بعض خبراء السوق النفطية بأن المنظمة تحتاج إلى إجراء صدمة في الأسواق لتثبت أسعارها عند مستويات مقبولة قبل اجتماعها المقبل, ولم تنتظر السعودية اجتماع وهران إذ قررت تخفيض 8 في المائة من إنتاجها النفطي, وأشاد شكيب خليل وزير الطاقة والمناجم الجزائري والرئيس الدوري الحالي لمنظمة "أوبك" بهذه الخطوة, وقال: إن لهذه المبادرة أثرا إيجابيا في السوق. وبالنسبة للسعر المستهدف صرح خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز في حديث صحافي يوم السبت 29/11/2008 بأن سعر 75 دولارا للبرميل هو السعر العادل للنفط. وبهذا التصريح حددت السعودية لأول مرة منذ سنوات السعر المستهدف, وأكد المهندس علي بن إبراهيم النعيمي وزير البترول والثروة المعدنية السعودي أن سعر 75 دولارا الذي تحدث عنه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز هو السعر المجدي للمستثمر والمستهلك والمنتج الهامشي. وقال بعض الخبراء إنه بتحديد ما تراه سعرا عادلا للنفط فإن السعودية تبعث بذلك رسالة إلى المستهلكين وأنها تريد الحفاظ على الاستثمارات في صناعة النفط وأن سعر 75 دولارا يبدو منطقيا لتلبية احتياجات أعضاء "أوبك" لمواصلة هذه الاستثمارات.
وصرح عبد الله بن حمد العطية وزير الطاقة والصناعة القطري بأن سعرا للنفط دون 70 دولارا للبرميل ينذر بإفساد مشاريع لزيادة الطاقة الإنتاجية للنفط والغاز وأن ما يشغله هو أن سعر النفط قد ينخفض وأن مشاريع كثيرة ستتأجل.
وفي الواقع سجل سعر البرميل آنذاك 46 دولارا, حيث خسر بذلك 70 في المائة من قيمته منذ أن بلغ مستواه القياسي في منتصف تموز (يوليو) الماضي.
مرة أخرى إزاء استمرار تراجع أسعار النفط قررت "أوبك" في اجتماع مؤتمرها الذي عقد في مدينة وهران في الجزائر بتاريخ 17/12/2008 تخفيض الإنتاج بمقدار 2.200 مليون برميل اعتبارا من 1/1/2009, ويعد هذا التخفيض أكبر خفض تقرره المنظمة مرة واحدة منذ تأسيسها. وبهذا التخفيض يصل إجمالي الخفض في إنتاج دول "أوبك" منذ أيلول (سبتمبر) الماضي إلى 4.200 مليون برميل يوميا, لكن أسعار النفط واصلت تراجعها بعد القرار الأخير لمنظمة "أوبك", حيث تراجع سعر سلة خامات أوبك في اليوم التالي لمؤتمر وهران إلى 39.48 دولار للبرميل من 40.95 دولار.
من ناحية أخرى, إن روسيا, ثاني أكبر دولة مصدرة للنفط في العالم, التي دأبت منذ سنوات على حضور مؤتمرات "أوبك" بصفة مراقب, وعدت قبيل مؤتمر وهران بأن تتعاون مع المنظمة وتخفض إنتاجها من أجل وقف تدهور الأسعار, إلا أنها لم تنجز حتى الآن هذا الوعد, الأمر الذي دعا شكيب خليل وزير الطاقة والمناجم الجزائري الرئيس الدوري الحالي لمنظمة "أوبك", إلى مطالبة روسيا مجددا بالتعاون مع المنظمة في خفض الإنتاج, وأضاف قائلا إنه "لو لم تخفض "أوبك" الإنتاج في أيلول (سبتمبر) وتشرين الأول (أكتوبر) 2008, أعتقد أنه ربما كنا سنرى أسعارا عند 20 دولارا للبرميل, لذلك فإن إيرادات روسيا حاليا عند 40 دولارا للبرميل وليس 20 دولارا للبرميل بفضل (أوبك)".
وأعرب عبد الله البدري أمين عام "أوبك" عن أمله في خفض لا يقل عن 500 ألف إلى 600 ألف برميل يوميا في إنتاج الدول غير الأعضاء في منظمة "أوبك" من أجل المساعدة على استقرار الأسواق.
تلك هي الملامح العامة لوضع السوق النفطية خلال الثلث الأخير من عام 2008, ويمكن القول بصفة عامة إن قرارات منظمة "أوبك" الأخيرة بتخفيض الإنتاج تتسم بالتوازن وتدل على الحكمة, فالمنظمة في تحديد مقادير التخفيضات التي قررتها في مؤتمري فيننا ووهران حرصت على ألا تكون هذه التخفيضات متواضعة حتى يمكنها أن توقف المسار النزولي للأسعار, كما أنها حرصت على ألا تكون التخفيضات حادة حتى لا تكون شديدة الوقع على الدول المستوردة للنفط وتفادي الآثار السلبية التي قد تلحق بالاقتصاد العالمي, الذي ما زال يعاني آثار ونتائج الأزمة المالية الدولية الناشئة أصلا من أزمة الرهون العقارية الأمريكية. وإذا كان شك المتعاملين في السوق النفطية في التزام دول "أوبك" بقرارات تخفيض الإنتاج هو أحد الأسباب في استمرار تراجع أسعار النفط, فإن المهندس علي النعيمي وزير البترول والثروة المعدنية قد انتقد ما ورد من أرقام مغلوطة حول خفض الإنتاج في تقديرات مصادر ثانوية وحذر قائلا "لا تشكوا في جهد "أوبك" أو في رغبة أعضائها في إعادة السوق البترولية إلى استقرارها ـ إن شاء الله".
كما أن الوزير الجزائري شكيب خليل الرئيس الدوري الحالي لمنظمة "أوبك" أكد أن أعضاء "أوبك" سيسارعون إلى الالتزام بأحدث خفض للإنتاج أعلنته المنظمة لتفادي خطر حدوث اضطراب خطير في الأسعار مع تراجع الطلب, وذلك في حال عدم الالتزام بحصص الإنتاج.
وأدت تصريحات الوزيرين السعودي والجزائري إلى ارتفاع سعر برميل النفط شيئا قليلا ثم عاد السعر إلى الانخفاض فوصل سعر سلة خامات أوبك في 22/12/2008 إلى 36.92 دولار للبرميل. ويرى بعض الخبراء أن السوق مشبعة لوجود فائض في الإمدادات مع انخفاض الطلب, كما أن مخزون النفط أعلى من المعتاد, وأن الأمر قد يستغرق بعض الوقت لامتصاص هذا المخزون الزائد قبل أن تبدأ الأسعار في التحسن تدريجيا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي