استمرار برامج الإنفاق الطموحة

للحكومات عادة موازنتان: موازنة تقديرية، وموازنة فعلية. الموازنة التقديرية تعلن في بداية العام، حيث تفصح الحكومة عن خطة مصروفاتها وإيراداتها العامة المتوقعة. وعند وضع الموازنة تقوم الحكومات عادة برسم خطط إنفاقها أولا، التي ينبغي أن تكون مناسبة للحالة الاقتصادية السائدة، فنزيد النفقات في أوقات الكساد لتحريك الاقتصاد، وتثبطه في أوقات الرواج وارتفاع الإنفاق. وبعد تحديد برنامج النفقات تقوم الحكومة بتقدير جملة إيراداتها. حينها تجد الحكومة نفسها أمام ثلاثة احتمالات: إما أن الإيرادات المتوقعة تكون مساوية للنفقات المخططة، أو أن الإيرادات تقصر عن ما خطط له من نفقات فتظهر الموازنة بعجز يغطي بالدين العام، أو يظهر أن الإيرادات تفيض عن المصاريف فيرحل الفائض كاحتياطي لتسديد دين سابق أو يحتفظ به للمستقبل. أما الموازنة الثانية فهي كشف الحساب الفعلي أو الموازنة الفعلية التي تظهر آخر العام. وهذه أيضا لها الحالات الثلاث نفسها السابقة، إما موازنة فعلية متوازنة، أو ذات عجز، أو موازنة بفائض. وقد اتضح أن الموازنة الفعلية للعام الحالي تعكس فائضا كبيرا سيوجه جزء منه لتمويل عجز الميزانية المقبلة، وقد يستخدم جزء آخر لإطفاء مزيد من الدين العام، فيما يحتفظ بما تبقي للاحتياطي العام للدولة.
وقد أعلنت وزارة المالية أمس عن أرقام الميزانية التقديرية للعام المقبل، وكذلك عن الأرقام الفعلية لميزانية العام الحالي. وقد اتضح أن ميزانية العام الحالي حققت فائضا فعليا مقداره 590 مليار ريال. حيث توقعت وزارة المالية أن تصل الإيرادات الفعلية في نهاية العام الحالي إلى 1100 مليار ريال، فيما توقعت أن تبلغ المصاريف الفعلية في نهاية العام المالي 1428/1429 خمس مائة وعشرة ألاف مليون ريال. ومن الواضح أن هذه المصاريف زادت عن ما قدر لها بمقدار 100 ألف مليون ريال، نتيجة المصاريف التي استجدت خلال العام الحالي، مثل بدل غلاء المعيشة التي أقرها مجلس الوزراء في بداية العام المالي الحالي، ودفعات تنفيذ مشاريع للحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة، ومشاريع عسكرية وأمنية وأخرى، والمبالغ التي ترتبت نتيجة تثبيت بعض فئات الموظفين، وزيادة القبول في الجامعات والابتعاث، وإعانة الشعير والأعلاف وحليب الأطفال والأرز.
أما فيما يتصل بالميزانية التقديرية للعام المقبل 1430/1431 فقد قُدِّرَتْ الإيرادات العامة في الميزانية العامة للدولة للعام المالي 1430/1431 بمبلغ 410 آلاف مليون ريال. فيما حُدِّدَتْ النفقات العامة بمبلغ 473 ألف مليون ريال. وهكذا تصدر هذه الميزانية بعجز قَدِّرَ بمبلغ 65 ألف مليون ريال.
هذه ميزانية تمويل بالعجز، وهي تعني إصرارا حكوميا على استمرار برامج الإنفاق الحكومي الطموحة على الرغم من التراجع الكبير المتوقع في دخل الحكومة نتيجة الانخفاض الحاد في أسعار النفط. تأتي هذه البرامج الطموحة رغبة من الدولة في تعزيز مسيرة التنمية، واستغلالا لجاذبية بيئتنا الاستثمارية، وحرصا على تدعيم الثقة بالاقتصاد الوطني في ظل ظروف دولية استثنائية. وعند تدقيق النظر في بنود هذه النفقات نلحظ استمرار التركيز على المشاريع التنموية الحيوية التي يؤمل - بمشيئة الله – أن تسد العجز في هذه الخدمات، وفي الوقت ذاته توافر مزيد من فرص العمل للمواطنين والمواطنات.
ومن الواضح أن الميزانية تعطي أولوية للخدمات التي تَمَسُّ المواطن بشكل مباشر. وقد جاء في مقدمة هذه الخدمات خدمات التعليم والتدريب حيث خصص لها نحو 122 مليار ريال. ويندرج تحت هذا الاعتماد الضخم مصاريف التعليم كافة بنوعيه العام والجامعي، وهو يشمل كذلك الاستمرار في دعم مشروع الملك عبد الله بن عبد العزيز لتطوير التعليم "تطوير" بتكاليف تصل لنحو تسعة آلاف مليون ريال.
تلي ذلك الإنفاق على الخدمات الصحية والتنمية الاجتماعية التي خصص لها نحو اثنين وخمسين ألفاً وثلاث مائة مليون ريال، ستوجه لاستكمال إنشاء وتجهيز مراكز الرعاية الصحية الأولية بجميع مناطق المملكة، ومشاريع لإحلال وتطوير البنية التحتية لعدد من المستشفيات، فضلا عن إنشاء مستشفيات جديدة، وتطوير نظام المعلومات الصحية. هذا إضافة إلى دعم إمكانات وزارة العمل ووزارة الشؤون الاجتماعية لتحقيق أهداف التنمية الاجتماعية، وفي مقدمتها دعم برامج معالجة الفقر والصندوق الخيري الوطني، وزيادة المخصصات السنوية بالميزانية المتعلقة بالأيتام وذوي الاحتياجات الخاصة.
وكذا الأمر في بقية الخدمات، كالخدمات البلدية، وخدمات المياه والزراعة والصرف الصحي، والطرق، والتعاملات الإلكترونية، ودعم البحث العلمي، وبقية مشاريع البنية الأساسية، فكلها حصلت على مخصصات تعكس دعم الدولة لمسيرة التنمية المستدامة والشاملة التي تغطي مختلف مناطق المملكة.
لا شك أن الأرقام التي أعلنت تعكس صورة مالية إيجابية عن الاقتصاد السعودي. لكن الاقتصاد ليس مالية عامة فقط على أهميتها، بل هو أيضا وعلى قدر المساواة الإدارة الناجحة والتطبيق الفاعل لهذه البرامج على أرض الواقع، أو بمعنى آخر هو الصورة الديناميكية التفصيلية المتحركة لقطاعات الاقتصاد الأساسية التي يجب أن تنتهي إلى مزيد من النجاحات في تنويع مصادر الدخل ـ وهو التحدي الرئيس لاقتصادنا منذ ما يزيد على أربعة عقود ـ وفك اختناقات الاقتصاد في قطاعات عديدة كالإسكان والخدمات الأساسية، وتحسين مستوى معيشة عامة الناس بتوفير ما يحتاجون إليه من خدمات، وتوليد مزيد من فرص العمل لاستيعاب العاطلين منهم. وكل ذلك سيعتمد على نجاحنا بتبنى سياسات مالية ونقدية حصيفة، وأساليب إدارية فعالية تبعد شبح تعطيل المشاريع وإعاقة برامج التنمية حذرا من ضياع الفرص.
إن القوة الحقيقية لاقتصادنا لا تكمن فقط في موازنات طموحة، بل هي في الواقع عندما تنجح هذه الاعتمادات والبرامج في إحداث تغيير نوعي في صروحنا الصناعية، وقلاعنا التعليمية، وخدماتنا الصحية، وأساليبنا الإدارية، والتزاماتنا المنهجية، بحيث تفضي بنا في نهاية المطاف إلى دخل وطني أكثر تنوعا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي