حتى لا "تتقولب" الصحافة السعودية.. من يعلق الجرس؟
ربما يستثير الرأي أدناه حفيظة فئة من المشتغلين في قطاع شركات العلاقات العامة، وربما أيضا يستفز بعض الذين يعتقدون في قرارة أنفسهم أن الصحافة السعودية لا تعدو كونها ناقلا للبيانات، مستندين في ذلك إلى بعض التقييمات الصادرة عن مؤسسات أجنبية وكان آخرها ذلك المتعلق بمستوى الحرية في الصحافة حيث جاء ترتيب صحفنا متأخرا بعد السورية والليبية على سبيل المثال، رغم أن هذا التقييم لمن لا يعرف يقيس في عدد من بنوده حرية الصحافة أو الصحافي في تناول الأمور المتعلقة بالجنس (على سبيل المثال)، وهو أمر قد لا يقدم ولا يؤخر في رواج الصحيفة أو حريتها.
وفي هذا الرأي لن نعرج إلى مسألة الحرية أو المساحة المتاحة للصحافة السعودية أو الصحفي المشتغل فيها، بل نتناول الطرح المهني في إطار المساحة المتاحة، فقياسا على بعض صحف المنطقة التي تتقدم في مساحة المتاح، تبقى الصحف السعودية أكثر عمقا مهنيا، من حيث السيطرة المهنية على أبعاد القضية، مع أن هذا الأمر لا ينفي بالقطع وجود (أخطاء مهنية تتعلق بتأهيل الصحفي نفسه في بعض القضايا)، لكن لو أخذ الأمر على العموم، فإن الصحف السعودية – قياسا على الصحف الخليجية على وجه التحديد – تتصدر في ثلاث نواح، أولاها وجود صحافيين مؤهلين متفرغين للمهنة، وهذا الجانب يدفعهم إلى تطوير الذات باعتبار الصحيفة هي مصدر دخلهم ولضمان الاستمرار ورفع الدخل يعمد الصحافي إلى تطوير ذاته لأنه لا يملك دخلا آخر أو مؤهلا يوفر له فرص عمل خارج هذه المهنة. والثانية هي أن نسبة عالية جدا تصل في بعض الصحف إلى 100 في المائة، هم من المواطنين السعوديين، وبالتالي فإن التعامل مع أي قضية تمنح الصحافي المتعامل معها بعدا محليا وتاريخيا لطرحها بالحدود المعقولة والمقبولة لأي عمل صحافي (تحقيق أو تقرير أو حوار أو حتى قصة خبرية)، وهذا العنصر مفقود إلى حد كبير في بعض صحف المنطقة. والعنصر الثالث، هو استناد الصحف المحلية إلى سوق تنافسي كبير يدفع الصحيفة إلى رفع درجة مهنيتها وتنويع موادها، وهو أمر يفرض على كل صحيفة محاولة الاختلاف عن بقية الصحف من خلال المواد الصحفية التي تتفرد بها ولا تشترك فيها مع الآخرين. وهنا يلاحظ (الشخص العادل) أن الصحف السعودية عبر تأهيلها الذاتي لم تعد تكتفي بنشر البيانات الرسمية كما هي سواء البيانات السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، فهي باتت تتحرك وتتنافس في مساحة شاسعة من خدمة هذه البيانات وتفسيرها وتحليلها، ويمكن لنا الإشارة على سبيل المثال إلى البيان الذي يصدر عن جلسة مجلس الوزراء، ففي حين أن نشره قد يكون كافيا، إلا أن المنافسة بين الصحف المحلية فتحت آفاقا لتحليل بعض قرارات المجلس وتفسيرها رغبة في إضافة قراء جدد في سباق في المنافسة. ورغم أن هذه الجوانب تحتاج إلى قياس منهجي للوقوف عليها بشكل علمي إلا أن المؤشرات العامة لا تمنع ذكرها على أساس أنها حقائق ثابتة.
لكن ثمة مسائل بدأت تظهر في الصحافة المحلية وربما تؤدي مع اتساع دائرتها ورواج نشاطها إلى إعادة الصحافة السعودية إلى "القولبة" التي لا ننكر أنها كانت سائدة في عقود ماضية في غياب التأهيل والتفرغ والتوطين. المسألة المعنية هنا هي شركات العلاقات العامة التي وسعت نشاطها من الإعلان إلى التحرير، نقلا عن تجارب غير مهنية في دول مجاورة، فلم يعد هذا النوع من الشركات يتولى بيانات عميل بعينه (شركة أو مؤسسة) بل يذهب إلى تحرير القضايا والمناسبات وفعاليات المؤتمرات، دون الحاجة إلى أن تبعث الصحيفة مندوبها إلى موقع الحدث، لتظهر القضية في اليوم التالي في الصحف "مقولبة" لا يختلف عرضها في صحيفة عن أخرى إلا في طريقة عرضها (الإخراج) وفي حدود دنيا العناوين. هذه الشركات تجني على الصحافة في عدة جوانب، أولا حرمان الصحافي من التجربة الذاتية والتأهيل، وتحرم الصحيفة من التميز والمنافسة.
وهنا قياس لحادثتين متماثلتين - حدثتا في أكتوبر الماضي - إحداهما في السعودية والأخرى في دولة خليجية أحكمت شركات العلاقات العامة قبضتها على صحافتها، والمشترك بين الحالتين هو قضية فساد إداري ومالي ففي حين أن الحالة التي حدثت لدينا كانت محدودة وتتعلق بموظفي إدارة تابعة لإحدى الوزارات، إلا أن الصحف السعودية تعاملت معها بعمق مهني ومتابعة زمنية‘ فضلا عن تفسيرها وتحليلها من قبل المختصين. في الوقت الذي كانت الحالة في الدولة الخليجية المعنية أعلى درجة من مثيلتها لدينا، وهي تتعلق بالفساد في شركات حكومية عملاقة وبنوك مساهمة ووزراء أيضا، لكن التعامل الصحافي هناك – وفق قياس مهني – لم يتجاوز نقل البيانات الصادرة عن الجهات الرسمية، ولم تكلف أي صحيفة (قطعا)، التعامل مع القضية باعتبارها ملفا خطيرا يستحق العمق المهني وعرضت كل حالة فساد في تلك القضية منعزلة عن سابقتها وكأن الفاصل الزمني بينها يتجاوز عقودا لا ساعات، ولا يمكن عزل هذا الوضع بأي شكل من الأشكال عن دور شركات العلاقات العامة التي "قولبت" الصحافة هناك وحجرت على تأهيل الصحفي ومساحة المنافسة بين الصحف. حدث في صحافتنا المحلية خلال الأسابيع الماضية ما يستوجب تعليق الجرس، شركة علاقات عامة "قولبت" مؤتمرا صحافيا لمسؤول يتسنم جهة مهمة في البلاد, وخرج مؤتمره في اليوم التالي في الصحف كافة – على أهمية المعلومات التي وردت فيه – نسخة مطابقة. ترك الحبل على الغارب لشركات العلاقات العامة يعني "سوفيت كوبي" للصحافة السعودية خلال أعوام وربما أشهر قليلة – قياسا أيضا على تجارب من سبقنا إلى هذا الحقل – ولا عزاء للمهنيين. للحديث بقية.