بصراحة تامة...هذه هي معوقات طرح البديل الإسلامي.

عزيزي القارئ، عرضت في سلسلة مقالات في هذه الجريدة المرموقة لجذور الأزمة العالمية، وكيف أنها أزمة نظام وليس أزمة مجرد مالية، كما حاول بعض الزملاء اختزالها، فالرأسمالية كأيديولوجية - وعلى الرغم من مزاياها المتعددة، التي لا يمكن أن ننكرها - تحمل في ثناياها الكثير من المتناقضات، بل والمسلمات الخيالية (المنافسة الكاملة، واليد الخفية، والتوازن التلقائي... إلخ). فلم يثبت خلال القرنين الماضيين صدق وسلامة تلك المسلمات، بل ما ثبت هو العكس تماماً، حيث الأزمات المتعاقبة والطاحنة، وآخرها الأزمة الراهنة، التي يعلم الله وحده عمقها وحجم ضحاياها. ولهذا انتهينا إلى أن الأزمة الحالية ستشكل نقطة فارقة، يتوقف على أثرها قطار العولمة، أما الرأسمالية كأيديولوجية فستبقى، بعد أن تُكبح جماحها وتدخل مجدداً في القفص الكينزي إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا.
وفي ظلال تلك الأزمة، هبت الأقلام (التي أقدرها وأحترمها) للحديث عن النظام الاقتصادي الإسلامي كبديل!!! وقد ذكرت في مقالي السابق، أن الحديث عن نظام اقتصادي إسلامي من حيث المبدأ سيقود إلى وأد الفكرة من منبتها، لتبقى حبيسة الدول الإسلامية للأسباب والمبررات التي طرحتها آنذاك، ولهذا اقترحت أن يكون تعاملنا مع الآخر من منطلق أكثر رحابة وهو "إطار إسلامي عالمي للنشاط الاقتصادي" يقبل ويستوعب طيبات الآخرين للأسباب التي أوضحتها آنذاك.
إذاً - وعلى الرغم من إيماننا الكامل بوجود وسمو الرؤية الإسلامية الربانية - فمن حيث المبدأ نحن لسنا مهيئين بعد لتقديم تلك الرؤية الإسلامية المعتدلة (المنهج)، التي تعكس سماحة هذا الدين وعظمته، فحتى ما يشاع تسميته بالنظام الاقتصادي الإسلامي؛ لا يزال هناك خلاف واضح بين علماء الأمة حول ركائزه وقسماته حتى ولو ادعى البعض غير ذلك؛ وعليك أن تقارن بين كتابات علماء الأزهر، على سبيل المثال، وكتابات العلماء في بلد مثل المملكة العربية السعودية وباقي البلدان الإسلامية... فبأي الرؤى سيقبل العالم الغربي؟؟!! وهل هذا التعدد في الرؤى يعكس بحق وحدة الرسالة؟؟!!... فكيف يمكننا تقديم البديل للعالم، ونحن لا نزال مختلفين عليه وعلى ركائزه وأصوله؟؟!!
وفي حقيقة الأمر، خلصت في دراستي التي أشرت إليها في مقالي السابق "نهاية التاريخ أم نهاية العولمة؟؟... نحو إطار إسلامي للنشاط الاقتصادي" إلى أن هناك عديدا من المعوقات - ومن ثم التحديات - التي تقف حجر عثرة أمام طرح الرؤية الإسلامية المعتدلة، ومن ثم تعوق وصولها إلى من هم في أمس الحاجة إليها. ويمكنني تلخيص تلك المعوقات، التي إذا ما تم التغلب عليها، يمكننا بالفعل أن نقدم رؤيتنا لسامية وبثقة تامة للعالم لينهل منها، وهي:
أولاً: ضرورة العمل على جذب الآخر إلينا ليس من خلال الكلام عن نظام اقتصادي إسلامي، ولكن من خلال إطار إسلامي عالمي للنشاط الاقتصادي، وهذه مسألة تطرقت غليها تفصيلاً في المقال السابق.
ثانياً: ضرورة تحديد معالم واضحة للإطار الإسلامي بالبدء بحسم القضايا الخلافية. كيف يمكننا أن نقنع العالم برؤيتنا ونحن لا نزال نختلف بشأنها. فقضية الربا من أبرز القضايا التي مزقت العالم الإسلامي وأضعفت حجته. فالاجتهادات بشأنه متعددة ومتباينة، للأزهر رأي ولهيئة كبار العلماء في المملكة رأي آخر، وحتى لو جمعت بين عالمين ستخرج منهما برأيين مختلفين... فبأي الرأيين سيأخذ الغرب؟!
أتذكر أنني خلال دراستي الدكتوراة في بريطانيا، سألني المشرف الإنجليزي سؤالاً مهماً، هو سؤال لنا جميعاً "كيف يحرم الإسلام معاملة استفاد منها الجميع؟! فأنا أستاذ في الجامعة (والكلام لا يزال لأستاذي الإنجليزي) توافر لدي المال، أودعته في البنك الذي وعدني بعائد على إيداع هذا المال، فقام البنك بإقراض المال لتوني ليستثمره، فاستفاد توني كما استفاد كل من عمل في مشروع توني، كما استفاد المجتمع من خلال المشروع الجديد، واستفاد البنك من خلال هامش الربح، كما وظف العشرات من خريجي كلية التجارة ومن ثم فرص عمل جديدة، كما استفدت أنا، أي لم يضار أحد من هذه المعاملة.. فكيف يحرم الإسلام معاملة كهذه فيها نفع للجميع..."، كان ردي عليه مطولاً، ولا يسعه هذا المقال، ولكنه دار في إطار تحليل للموقف الإسلامي المتباين من قضية الربا ومبررات التحريم.. ولكن ما الربا؟ وما علة تحريمه... وما حدوده؟! وما أثر هذا التشتت الذي أغرقنا فيه علماء الأمة الإسلامية في اقتصادنا ومستقبلنا؟
إذاً هناك ضرورة حتمية - إذا كنا فعلا ننشد تقديم رؤية وضاءة للعالم - لأن ينشأ مجلس إسلامي عالمي يضم نخبة من علماء الأمة من مختلف الدول الإسلامية تتولى حسم القضايا الخلافية ووضع رأي ملزم وموحد بشأنها.. عندما يتحقق ذلك، يمكننا طرح رؤيتنا للعالم... وإلا فنحن مقصرون في حق ديننا وحق أمتنا، بل في حق العالم أجمع الذي يبحث عن طوق نجاة.
ثالثاً: من أبرز معوقات طرح الرؤية الإسلامية، حتى ولو تمكنا من حسم القضايا الخلافية ووضعنا أطر وركائز محددة للإطار الإسلامي العالمي، تتمثل في أنظمة الحكم القائمة بالعالم الإسلامي.... لا يمكن أن نبقى إلى الأبد واضعين رؤوسنا في التراب، ولا نضع أيدينا على مكامن المشكلات... لا يمكن لعاقل أو مسلم منصف أن يدعي أن الدول الإسلامية تقدم نفسها الآن كمثل يحتذى في أنظمة الحكم... وإلا لكانت ردة الفعل مختلفة تماماً.
وحتى لا أطيل على القارئ العزيز، أستدل هنا بكلمة ذكرها لي أحد الإنجليز عندما حاولت دعوته للإسلام خلال مشاركتي في لقاء نظمته جماعة تبشيرية في الجامعة البريطانية لدعوة الطلاب الأجانب (خاصة من الصين وهونج كونج وتايون... إلخ) للدخول في المسيحية، فكنت أشارك في تلك الندوات لأقدم الرؤية الإسلامية حتى أبرز للمشاركين بأن هناك رؤية أخرى ترتقي إلى العقل وتسمو به، وكانت حجتي قوية لأن مصدرها كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه...ولكن... صدمني أحد المشاركين عندما سألته: "هل قرأت عن الإسلام لتحكم، ومن ثم تختار بين الديانات، فكان رده قاتلاً ومباشراً: "الإسلام بالنسبة لي يعني صدام، يعني فلان يعني، فلان يعني فلان... إلخ، أي أنه عدّد أسماء حكام وأباطرة الدول الإسلامية... فلو كان في الإسلام خير لصلح به حال قلب العالم الإسلامي!!!" والكلام لصديقي الإنجليزي. حقيقة كان رد الزميل الإنجليزي أشبه بمن يشير إلى جزيرة مظلمة قاتمة السواد في وسط البحر!!
نعم، إن حال الأمة الإسلامية لا يرضي عدوا ولا حبيبا، كما نقول نحن المصريين، نحن نرى من الحكام من يربط ثورته بالإسلام، والإسلام في حقيقة الأمر بريء منه ومن أفعاله ومن تصرفاته التي تُخجِل كل مسلم.... حتى بات العالم الإسلامي مثالاً للديكتاتورية والتخلف والجهل، بدليل أن على سدة الحكم أمثال هؤلاء... إذاً كيف لنا أن نتوقع من الغرب أن ينتظر منا فكرة (أو حل) حتى ولو كانت سامية، ونحن كدول إسلامية نقدم أسوأ المثل.... علينا أن نعمل عقولنا وأن نضع أنفسنا مكانهم...!!
إذاً لا يمكننا أن نقدم رؤيتنا للعالم، إلا إذا فرضنا احترامنا على العالم من خلال أنظمة حكم تعكس سماحة وعدل وسمو الدين الإسلامي، وإلا فنحن نضيع وقتنا فيما لا فائدة منه، وأحيل القارئ العزيز إلى التفاصيل في كتابي الذي أشرت إليه في صدر هذا المقال.
ثالثاً: ضرورة فتح باب الاجتهاد المنظم. فلما كانت حياة كل تشريع تتجلى في تطبيقاته، فقد حث الإسلام على الاجتهاد وجعل للمجتهد أجرين إن أصاب وأجراً إن أخطأ، واعتبر الاجتهاد المصدر الثالث للتشريع بعد الكتاب والسنة. ولهذا، كانت أكبر ضربة وجهها المسلمون أنفسهم إلى الإسلام هي قفل باب الاجتهاد "اختيارياً منذ أواخر القرن الرابع الهجري. فمنذ ذلك الحين توقفت الدراسات الشرعية وتجمدت التطبيقات الإسلامية عند مرحلة تاريخية معينة. يؤكد ذلك الربكة التي تعم العالم الإسلامي في التشريع لمختلف الشؤون التي جدت في حياة المسلمين - وما كانت قضية الربا إلا مثالا - وخاصة فيما يتعلق بتعاملاتهم مع غير المسلمين. بقفل باب الاجتهاد، عطلت المبادئ الإسلامية عامة والاقتصادية خاصة عن مواجهة حاجات المجتمع المتغيرة. إذ لم يعد العلماء فيما يعرض لهم من وقائع جديدة يرجعون إلى المصادر التشريعية الأساسية لاستنباط الأحكام من نصوص القرآن والسنة، وإنما يرجعون إلى اجتهادات الأئمة السابقين فيلزمون الناس بها، دون مراعاة أنها وضعت لزمان غير زمانهم ولأوضاع غير أوضاعهم، بل دون اعتداد بما كان يحرص على تأكيده هؤلاء الأئمة بقولهم "لا تأخذوا عنا وخذوا ممن أخذنا عنهم"، بمعنى ارجعوا مثلنا إلى الأصل وهو الكتاب والسنة. بقفل باب الاجتهاد انقطعت صلة المجتمعات الإسلامية بالتطبيقات الإسلامية الصحيحة.
وإذ حل التخلف على المسلمين، ادعى خصوم الإسلام بأنه حجر عثرة ضد التطور والتقدم، بل لقد شاع الشك بين المثقفين أنفسهم لقعود علماء الدين عن الاجتهاد المثمر، وقصور ما يعرضونه بالتقليد عن تلبية حاجات العصر المتطورة. وإذ ننادي اليوم بالعودة إلى تعاليم الإسلام وبضرورة تطبيق مبادئه الاقتصادية وإسهام الاقتصاد الإسلامي في حل مشكلات العالم، فإنه يتعين علينا قبل ذلك أن نبين بوضوح ودقة هذه المبادئ والأصول الاقتصادية الإسلامية، وأن نفتح باب الاجتهاد في كيفية إعمالها وتطبيقها بما يحقق مصلحة كل مجتمع بحسب ظروف الزمان والمكان.
رابعاً: تطوير أنظمة ومؤسسات التعليم الديني مع تحديث خطابه. وقد يتصور البعض ولأول وهلة من هذا العنوان "تطوير"!! بأنها دعوة لعلمنة التعليم الإسلامي، وهذا بالطبع ليس هو المقصود وحاشانا أن نطالب بهذا. إلا أن التعليم الديني ظل لقرون طويلة بعيداً عن التحديث، وعن مواكبة متطلبات كل جديد. ولذا حدثت فرقة أو فجوة - بلغت حد القطيعة في الكثير من البلدان الإسلامية - بين رجل الدين التقليدي، وبين ما يجري على أرض الواقع، وليس أدل على هذا الوضع من تسابق المسلمين لمتابعة شيوخ الفضائيات العصريين، وتواري العلماء التقليديين. إن سعة الأفق والاطلاع لدى رجل الدين وخاصة على المسائل الاقتصادية - والتي هي محور مقالنا - مطلب حتمي قبل الفصل في القضايا المطروحة، ومطلب جوهري لبلوغ مستوى المجتهد الذي ننشده. فكم من الفقهاء الذين يحرمون التعاملات المصرفية بكل أشكالها، وهم على علم بطبيعة عمل ودور تلك المؤسسات المصرفية والاستثمارية؟! فالاقتصاد مثلاً صار علماً له أدواته وتعقدت وتشابكت مشكلاته مع اتساع وتطور العلاقات الاقتصادية المحلية والدولية، الأمر الذي يقتضي التعرف على مفردات هذا العلم قبل تناول معاملة اقتصادية بالحل أو التحريم. فهذا هو الدكتور يوسف القرضاوي يكتب في أحد مؤلفاته وبشكل صريح قائلاً "أنا لست خبيراً في الاقتصاد، ولا أعرف في جزئياته وتفصيلاته"، فإذا لم يتيسر لرجل الدين التعرف على أمور الاقتصاد، فإن التعاون بين رجل الدين ورجل العلم يصير أمراً حتمياً. ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة، الذي لم يكن يفتي في أمر من أمور الدنيا إلا ويرجع إلى أهل العلم وذوي الاختصاص.
وفي هذا الإطار، على أنظمة التعليم الديني المنتشرة في العالم الإسلامي ألا يركز فيها على الكم والحفظ بقدر ما يكون التركيز في المراحل التعليمية المختلفة على الكيف الممزوج بمجريات العصر. وأن تكون الدراسات مبنية على المقارنة والربط الدائم بين ما قال به السلف وبين ما ينبغي أن يقال في ظل بيئة جديدة. الغرض هو أن تتشكل لدى رجل الدين العقلية النقدية التي تعتمد على أساليب البحث العلمي في تحليل وتوصيف الظواهر المختلفة بهدف استنباط الأحكام.
إذاً، المشكلات الأربع المشار إليها أعلاه تشكل متطلبات أساسية وشروط مسبقة علينا تنفيذها، وإذا نجحنا في تخطي تلك التحديات، سيتدافع علينا العالم كما تدافع من قبل عندما قدم المسلمون القدوة والمثل فدانت لهم الأرض. فلا يمكن لعاقل أن يدعي وضوح رؤيتنا في ظل اختلاف علماء الأمة، كما لا يمكن لعاقل أن يدعي استعدادنا في ظل أنظمة لا تعكس سماحة ولا رقي ولا عظمة الدين الذي تنتسب إليه، لا يمكن أن يدعي عاقل أو منصف أن أنظمة التعليم الديني (والأزهر خير مثال) قد طورت من خطابها على مدى القرون والعقود الماضية في وقت يشهد فيه العالم حراكا غير مسبوق على الأصعدة كافة. نسأل الله تعالى أن يقيد لهذه الأمة من يقيلها من عثراتها، وينفض عنها تراب الفساد والفقر والتخلف والأمية، ومن ثم يقدم للعالم المثل والقدوة في زمن ضاع فيه المثل وغابت فيه القدوة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي