هل تخيلت يوما أن تكون النقود في جيبك، لكنها لن تمكنك من شراء حاجياتك. لا تكمن المشكلة في النقد ولا في السلعة ولا حتى في الزبون... السبب يعزى بكل بساطة إلى المتجر، الذي يواجهك عند صندوق الأداء بلافتة كبيرة كتب عليها: "الدفع إلكتروني فقط".
لم يعد ذلك لقطة في فيلم بل مشهدا يتكرر في الواقع اليومي في أماكن مختلفة في دول العالم، فعديد من المجتمعات تخوض سباقا مع الزمن قصد التحول إلى مجتمعات بلا نقود، حيث تحل المحافظ الرقمية والبطاقات البنكية والتطبيقات الذكية محل تداول العملات الورقية والمعدنية والشيكات والكمبيالات.
تشكيل مجتمعات غير نقدية
تتجه النقود في صورتها التقليدية (الورقية أو المعدنية) لتصبح جزءا من التاريخ في بعض الدول، خصوصا تلك التي طورت مبكرا أنظمة مالية وبنية رقمية تساعد على تشكيل مجتمعات غير نقدية، حيث يتم الدفع إلكترونيا عبر بطاقات الائتمان والخصم والدفع الإلكتروني... وغيرها من الأساليب المعروف باسم "الدفع اللا تلامسي".
استطاعت مجتمعات، وفق تقرير لمنصة زيمبلر، تقليص نسبة المدفوعات النقدية إلى حدود 5% من إجمالي التعاملات، فكل شيء تقريبا يؤدى بفضل تطبيقات إلكترونية من النقل عبر التاكسي إلى كوب القهوة وحتى الكنائس المحلية... بل إن المتسولين في مقاطعة شاندونج السياحية بالصين يحملون عبوات فارغة بها رموز استجابة سريعة "كيو آر".
تتصدر السويد قائمة الدول الخالية من النقد، فنسبة 99% من المعاملات المالية تتم عبر المدفوعات الرقمية، بل إن القانون هناك يسمح للمحلات والشركات بمواجهتك برفض النقد، ما يجعل الأداء النقدي لا يتعدى 1% في البلد، فحتى الباعة في الشوارع لا يقبلون العملات الورقية والمعدنية.
يعود السبب إلى انخراط البنوك السويدية مبكرا في مسار إقامة بنية رقمية، بإطلاق تطبيق "سويش" عام 2012، والترويج له على نطاق واسع، ما غير منظور السويديين تجاه النقود الكلاسيكية.
تراجع النقد موجة عالمية، وفق تقرير لمنصة "Visual Capitalist"، ففي القائمة نجد فلندا والصين وكوريا الجنوبية والدانمارك وبريطانيا وأستراليا وهولاندا... وامتد التراجع إلى العالم العربي حيث تحضر الإمارات والبحرين وقطر والسعودية في الصدارة عربيا، وإن تفاوتت في الدرجة بحسب مستوى البنية الرقمية فيها.
الدفع الرقمي مزايا ومخاطر
لم يعد الأمر مجرد تقديرات لأنصار المجتمع غير النقدي بل صار حقيقة تؤكدها المطبعة البريطانية العريقة "دي لا رو" (De La Rue)، التي تواجه اليوم مستقبلا مجهولا مع الارتفاع المضطرد لوتيرة الأداء الرقمي، وفق لشركة أبحاث "Edison Group"، بعدما كانت في السابق تصمم وتنتج 36% من نقود العالم.
إقبال يفسر بما يوفر الدفع الرقمي من امتيازات للمتعاملين، فلا مجال للسرقة مع الأداء الرقمي، ما شجع الكثيرين عليه. فمثلا كانت حادثة سطو ليلا في جنوب لندن سببا دفع صاحب مطعم إلى الامتناع عن قبول الدفع النقدي التقليدي.
يمنح النقد الإلكتروني صاحبه السرعة في الأداء، ويضعه بمعزل عن مشاكل تزوير الأوراق النقدية، ومخاطر الضياع أو الفقدان أو الهلاك أو التلف أو غير ذلك من المخاطر التي تهدد النقد الكلاسيكي.
الحكومات بدورها تجني مكاسب جمة من انتشار الأداء الرقمي، فبعد اليوم لا حاجة لتكاليف طباعة النقود. كما يمنع ظاهر التهرب الضريبي التي ترافق الصيغة التقليدية للنقود، فضلا عن إسهامه في تطويق عمليات غسل الأموال لسهولة الوصول إلى مصدر الأموال.
"العملة النقدية باتت كأنها ديناصور، لكنها ستظل باقية" عبارة تتردد في أوساط الخبراء والمستشارين الماليين ممن يشككون في مقولة "موت النقود"، باعتباره شعارا لحملة كبيرة وراءها شركات ضخمة لإقناع الأفراد بأن النقود الإلكترونية لغة العصر والمستقبل!

