قبل أشهر قليلة فقط، كان الائتمان الخاص، أي الإقراض من مؤسسات مالية خارج القطاع المصرفي، يعد مصدرا مبتكرا للتمويل، يقدم وعودا بزيادة الأرباح وتحسين عوائد صناديق التقاعد. أما اليوم، فقد أصبح ينظر إليه على أنه أداة مالية خطيرة قد تهدد استقرار الاقتصاد العالمي.
وكما هو الحال مع معظم الابتكارات المالية عبر التاريخ، من حسابات الهامش في عشرينيات القرن الماضي إلى الأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري في العقد الأول من الألفية الجديدة، فإن الائتمان الخاص يحمل وجهين متناقضين. فهو من جهة يمنح تمويلاً للمشاريع أو الأفراد الذين لا يستطيعون أخذ قروض مصرفية تقليدية، ومن جهة أخرى يمكن أن يؤدي إلى أزمة إذا تم توجيه الأموال إلى مقترضين ذوي سجل ائتمان ضعيف.
وبحسب صحيفة "بارونز"، حذرت وكالة موديز في تقرير جديد، أن انكشاف البنوك الأمريكية لقطاع الائتمان الخاص يقدر بـ300 مليار دولار، مشيرة إلى أنه "في الغالب، النمو السريع للقروض في البنوك الأمريكية يسبق تدهور جودة الأصول. وقد لا تتضح الآثار السلبية إلا بعد سنوات".
إفلاس شركتي "ترايكولور هولدينجز" و"فيرست براندز جروب"، وهما مؤسستا إقراض غير مصرفيتين، ينذر بما قد يكون "أولى الصدمات"، وكما حذر جيمي ديمون، الرئيس التنفيذي لبنك "جيه بي مورجان تشيس": “على الجميع أن يأخذ هذا التحذير بجدية".
لكن التاريخ يظهر أن التحذيرات وحدها لا تجدي نفعا، كما في عام 1929.
في عشرينيات القرن الماضي، عززت الولايات المتحدة نظامها المالي المتهالك، الذي عانى نوبات ذعر من انهيار البنوك، بعد إنشاء الاحتياطي الفيدرالي للحد من الأزمات المصرفية المتكررة. بيد أن الوسطاء الماليين تبنوا "روح المغامرة” القديمة. كان كل ما يحتاجه الوسيط هو مكتب وهاتف ومؤشر أسعار الأسهم، وابتكار جديد لجذب العملاء: حساب الهامش.
كان المستثمر حينها يودع 10% فقط من قيمة الأسهم، ويقترض الباقي من الوسيط، مستخدمًا الأسهم ضمانا، والوسيط كان بدوره يقترض من البنوك. سارت الأمور على ما يرام، طالما استمرت السوق في الارتفاع.
ومع تضخم القروض الهامشية، كتبت صحيفة "وول ستريت جورنال" في 7 يناير عام 1928 أن أبرز شركات الوساطة المالية سجلت زيادات قياسية في قروض الهامش، وأن قوائم عملائها نمت 50% خلال عام واحد. وأشارت الصحيفة إلى أن شركات الوساطة تجاهلت المخاوف المتعلقة بقدرة عملائها على السداد.
لكن حذر بعض المحللين، مثل الصحافي هاريس نيلسون في مجلة "بارونز"، من أن هذه المديونية المفرطة قد تؤدي إلى "تصفية دراماتيكية على مستوى النظام"، وكتب في مقال أن نسبة هذه القروض إلى إجمالي القيمة السوقية لجميع الأسهم المدرجة قد ارتفعت إلى ما يقارب 10%.
وبعد أسبوع من تحذيره، وقع ما يعرف بـ"الخميس الأسود" في أكتوبر 1929، وانهارت الأسواق، ولم يتمكن المستثمرون من سداد ديونهم، فانهارت المؤسسات الوسيطة والبنوك تباعا.
تكرر المشهد نفسه في الثمانينيات مع صعود السندات عالية المخاطر. ابتكر بنك دريكسل بورنهام لامبرت أداة تمويلية جديدة عرفت باسم "خطاب الضمان الموثوق"، الذي وعد المستثمرين بتوفير التمويل عند الحاجة، واستخدمه مستثمرو الاستحواذ كبديل عن النقد الذي رفضت البنوك تقديمه.
وكانت طريقة التمويل تعتمد على إصدار سندات عالية العائد لتغطية تكاليف الاستحواذ على شركات مهددة بالتعثر. ومع تراكم الديون وانهيار الشركات، انهارت السوق نهاية العقد، وسقط معها بنك دريكسل بورنهام في خضم فضائح وتحقيقات مالية.
ثم جاءت أزمة الرهن العقاري في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عندما أنشئت أدوات مالية جديدة مثل الأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري والالتزامات المضمونة بالديون.
هذه الأدوات قدمت معدلات عائد أفضل من سندات الخزانة، وكانت ذات تصنيف ائتماني ممتاز AAA، ما جعلها تبدو آمنة، لكنها كانت تحتوي على رهون عقارية ثانوية، أي قروض لمستفيدين ضعاف القدرة على السداد.
عندما بدأت حالات التخلف عن السداد تتراكم، أصبح حاملو هذه الأدوات المالية الجديدة في مأزق وكما حدث في عام 1929، امتدت آثار الانهيار إلى النظام المالي، وكانت النتيجة الأزمة المالية العالمية في 2008، التي أطاحت بمؤسسات عملاقة مثل "ليمان براذرز" ودفعت الاقتصاد العالمي إلى ركود طويل.
بعد كل أزمة، يشدد النظام المالي قواعده التنظيمية، ويجبر البنوك على التخفف من المخاطر. لكن سرعان ما يظهر قطاع جديد يملأ الفراغ ويعيد إنتاج المغامرة بوجه مختلف.
واليوم، يضطلع الائتمان الخاص بالدور نفسه: مؤسسات غير مصرفية تمنح القروض للشركات عالية المخاطر، فيما تمول البنوك هذه المؤسسات، لتجد نفسها مجددا في قلب المخاطرة.
اليوم، ومرة أخرى، اجتذب الائتمان الخاص البنوك، التي تمول جهات إقراض غير مصرفية مثل "ترايكولور"، ما يعرضها للمخاطر، كما يقول "جيه بي مورجان".
لقد أتانا التحذير. ونأمل أن يكون التحذير وحده كافيا هذه المرة لتجنب "تصفية كارثية على مستوى النظام".
