عبدالرحمن النمري
في رأيي، لا يمكن الحديث عن تصنيع حقيقي ومستدام دون المرور أولا من بوابة نقل المعرفة، فالتصنيع ليس مجرد إنشاء للمصانع أو استيراد لخطوط إنتاج، بل هو تراكم للخبرات، وتوطين للمهارات، وبناء لعقول قادرة على الفهم والتطوير والتحسين. الدول التي نجحت في القفزات الصناعية الكبرى لم تبدأ من الصفر، بل بدأت باستقطاب التقنيات، ثم تفكيكها معرفيا، ثم إعادة إنتاجها محليا بشكل أكثر كفاءة وملاءمة لاحتياجاتها.
أرى أن نقل المعرفة يمثل الخطوة الأولى نحو أي مشروع صناعي جاد، خصوصا في القطاعات الإستراتيجية وعلى رأسها قطاع الطاقة بأنواعه المختلفة، من النفط والغاز، إلى الطاقة المتجددة، ومرورا بالطاقة النووية وتقنيات الهيدروجين.
هذه القطاعات لا تقاس فقط بحجم الاستثمارات، بل بعمق المعرفة المصاحبة لها، فبحسب تقارير دولية فإن أكثر من 70% من القيمة المضافة في الصناعات المتقدمة تأتي من المعرفة والابتكار، وليس من الأصول المادية وحدها.
أعتقد أن السعودية تمتلك فرصة تاريخية في هذا المجال، خاصة في ظل مستهدفات رؤية 2030 التي تركز على التوطين، وتنويع الاقتصاد، وبناء القدرات الوطنية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، تشير بعض التقديرات إلى أن قطاع الطاقة المتجددة وحده قد يستقطب استثمارات تتجاوز 300 مليار ريال سعودي بحلول 2030، مع توفير عشرات الآلاف من الوظائف النوعية. لكن السؤال الأهم: هل ستكون هذه الوظائف تشغيلية فقط؟ أم معرفية وتقنية تقود إلى تصنيع محلي حقيقي؟
الجدير بالذكر أن تجارب دول مثل كوريا الجنوبية وألمانيا أثبتت أن اشتراط نقل المعرفة ضمن عقود الشراكات والاستثمارات الأجنبية كان عاملا حاسما في بناء صناعاتها الوطنية. في كوريا، ارتفعت نسبة المحتوى المحلي في الصناعات الثقيلة من أقل من 20% في السبعينيات إلى أكثر من 80% اليوم، وذلك بفضل سياسات واضحة تفرض التدريب ونقل التقنية وتوطين البحث والتطوير.
في رأيي، أن استقطاب التقنيات دون برامج واضحة لنقل المعرفة هو استثمار ناقص، حيث إن المطلوب ليس فقط شراء التقنية، بل إشراك الكوادر الوطنية في التصميم والتشغيل والصيانة، ومن ثم التطوير. هنا يتحول المشروع من مجرد صفقة إلى إستراتيجية صناعية حقيقية.
تشير إحصائيات عالمية إلى أن كل وظيفة تقنية عالية المهارة تخلق ما بين 3 و5 وظائف غير مباشرة في الاقتصاد المحلي، وهو أثر مضاعف لا يمكن تجاهله.
أرى أن المستقبل الصناعي للسعودية يبدأ من ربط الاستثمار الأجنبي ببرامج تدريب متقدمة، وشراكات مع الجامعات، ومراكز بحث وتطوير محلية. عندها فقط يصبح نقل المعرفة بابا واسعا للتصنيع، بل مسارا عمليا يقود إلى اقتصاد قوي ومستقل وقائم على العقول قبل الآلات.
مختص في شؤون الطاقة
