دانية أركوبي
في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي كان الاقتصاد الياباني يضرب به المثل، نمو اقتصادي مستدام، قطاع صناعي متقدم، صادرات تغزو العالم، بنية تحتية متطورة. كانت كلمة "صنع في اليابان" بالنسبة إلى صناعات مثل السيارات والأجهزة الكهربائية والألعاب الإلكترونية تترجم في نفوس المستهلكين والحكومات إلى الجودة والإتقان والتقدم. كانت اليابان القوى الاقتصادية الأكبر في آسيا، وتنافس الولايات المتحدة على زعامة الاقتصاد العالمي.
ولكن هذه التجربة سرعان ما بدأت في التآكل. فاليابان التي كانت تستحوذ في 1990 على 14% من حجم الناتج المحلي العالمي بالأسعار الجارية، انهارت حصتها بشكل سريع لتصل بحلول عام 2024 إلى 3.6%.
شيخوخة سكانية وطلب محلي ضعيف، انخفاض في تنافسية صناعاتها، صدمات عالمية كبدت اقتصادها خسائر كبيرة مثل أزمة النمور الآسيوية والأزمة المالية العالمية وجائحة كورونا. بيئة استثمارية تفتقد للحوافز، منافسة خارجية صعبة، عدم مواكبة ثورة التكنولوجيا وضعف الابتكار وغياب المواهب. تلك العوامل كانت سببا رئيسيا في تحول اليابان من نموذج يحتذى به للتقدم إلى عبرة للقوة الصاعدة لتجنب مصيرها.
بجوار اليابان، برزت الصين كقوة اقتصادية ناشئة صاعدة بسرعة الصاروخ. ناتج صناعي قياسي حتى صارت تعرف بـ"مصنع العالم"، في ظرف عقدين تحولت لثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم، وجهة للاستثمارات والشركات الخارجية، صادرات قياسية تبدأ من ألعاب الأطفال، ولا تنتهي عند السيارات والهواتف ومعدات الطاقة النظيفة. قوة عاملة شابه، رخيصة، مدربة، وجاهزة لقيادة التصنيع، قدرات تكنولوجية متقدمة، بنية تحتية سريعة التطور. والأهم سوق استهلاكية متنامية تتجاوز حاجز المليار نسمة قادرة على تحفيز الاقتصاد وتنشيط الطلب.
ولكن تقترب الصين من نفس دائرة اليابان المغلقة. بسبب عقود من سياسة الطفل الواحد، بدأت الصين تعاني أزمة سكانية مع انخفاض المواليد وارتفاع معدلات الشيخوخة. نموذج الاقتصاد الصيني القائم على أن تكون التجارة محرك للنمو أوجد لها متاعب بسبب الاتهامات بإغراق الأسواق الخارجية، والدخول في حرب الرسوم الجمركية مع أهم الشركاء. الاستثمار الأجنبي لم يعد يرى الصين وجهته الأولى كالسابق، مع التضيق والرغبة في تجنب معارك السياسة والتجارة.
موقف الصين يبدو أكثر صعوبة من اليابان لأسباب سياسية واقتصادية. فاليابان منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية ظلت اليابان تحت مظلة الحلف الغربي. الصين في وضع مختلف، فرغبة الصين في الهيمنة على الصناعات منخفضة وعالية القيمة وعلى قطاعات حيوية مثل المعادن النادرة، يثير القلق في نفوس الشركاء والحلفاء ويصنع توترات تمتد لقيود اقتصادية مثل حظر تصدير برمجيات مهمة مثل الرقائق الإلكترونية، وتضييق على الصادرات النوعية مثل السيارات الكهربائية والبطاريات.
يبقى السؤال هل تحركت الصين لتفادي المصير ذاته؟ الإجابة نعم، القيادة الصينية تدري المخاطر التي تواجه الاقتصاد وقامت بإجراءات مختلفة. إلغاء سياسة الطفل الواحد وتقديم حوافز مالية للأفراد للزواج والإنجاب. تنشيط الطلب والاستهلاك المحلي لتفادي الصدمات الخارجية، سياسة نقدية توسعية، توسعة شبكة الشركاء التجاريين بعيداً عن الأسواق الغربية، حوافز للشركات لتعزيز الإنفاق على البحث والتطوير ورفع القيمة المضافة للاقتصاد الرقمي. تركيز مباشر على تحقيق الاستقلالية في قطاعات إستراتيجية مثل الذكاء الاصطناعي والرقائق المتقدمة والصناعات العسكرية. خطط طموحة لجذب المواهب العالمية وتعزيز الابتكار.
حتى الآن فشلت كثير من السياسات في تحقيق أهدافها. فالاقتصاد ما زال معتمد على التجارة كمحرك للنمو، والشباب لم يستجيبوا لحوافز الحكومة لزيادة المواليد. والمستهلكين في حالة إحباط منذ أزمة كورونا، وينخفض استهلاكهم باستمرار، فيما لجأت كثير من الشركات المحلية والأجنبية للخروج من السوق، والانتقال إلى أسواق أخرى لتجنب الرسوم والمنافسة الصعبة في الداخل. وأزمة إسكان مستمرة منذ سنوات وفشلت جميع الجهود في علاجها حتى الآن. المحصلة ينمو الاقتصاد، ولكن بمعدلات بطيئة مقارنة بما قبل جائحة كورونا.
في الختام تجد الصين نفسها في مأزق يؤرقها ويذكرها بمأساة جارتها اليابان، فحيويتها مهددة مع انكماش السكان، وتنافسيتها في خطر مع التضييق العالمي والأزمات الداخلية، وصناعتها محاصرة بسبب الرسوم وصعود منافسين جدد.
وتملك الصين الفرصة لتفادي تدهور مستقبلي، فقطاعها التقني الصاعد بقوة قادر على تحقيق نمو صحي مستدام حقيقي، واحتياطاتها النقدية الهائلة وحوافز الحكومة قادرة على تعويض تباطؤ الاستثمار الخارجي، وقوانينها وبيئتها التنظيمية تتطور باستمرار لتكون جاذبة للخبرات والكفاءات الخارجية لتحقيق أهدافها بأن تكون مركزا رئيسيا للابتكار العلمي والتقني.
مستشارة اقتصادية
