جيفري
على مدى العامين الأخيرين، كانت الرواية السائدة حول الذكاء الاصطناعي تتحدث عن إمكانيات لا محدودة. وقد عملت النماذج الأضخم، وتجارب التدريب باستخدام تريليونات الرموز، ودورات الإنفاق الرأسمالي غير المسبوقة، على تعزيز الشعور بتسارع لا ينقطع. لكن التغير التكنولوجي نادرا ما يكون بهذه البساطة والوضوح، وهذه المرة ليست استثناء. مع انتقال الذكاء الاصطناعي من مرحلة التجريب إلى التطبيقات الواقعية، يبدو من الواضح أن القيود التي يفرضها العالم المادي، وأسواق رأس المال، والأنظمة السياسية أكثر أهمية من إمكاناته النظرية.
يتمثل القيد الأكثر إلحاحا في الكهرباء. ويتجلى هذا بأكبر قدر من الوضوح في الولايات المتحدة، حيث من المتوقع أن يرتفع الطلب على الطاقة في مراكز البيانات من نحو 35 جيجاوات إلى 78 جيجاوات بحلول 2035. الواقع أن ولاية شمال فيرجينيا، أكبر تجمع للبنية الأساسية السحابية على مستوى العالم، استنفدت السعة المتاحة لها من الشبكة بالفعل. وتحذر شركات المرافق في أريزونا، وجورجيا، وأوهايو من أن بناء محطات فرعية جديدة قد يستغرق ما يقرب من عقد من الزمن. الـمُجَمَّع الواحد قد يحتاج إلى 300-500 ميجاوات، أي ما يكفي لتزويد مدينة بأكملها بالطاقة. ربما يكون من الممكن تصنيع السيليكون بسرعة؛ أما نقل الطاقة العالية الجهد فمن غير الممكن إنجازه بذات السرعة.
تستجيب الأسواق بالقدر الذي قد يتوقعه المرء من السرعة والطموح. فقد أصبحت شركات الخدمات السحابية العالمية الضخمة (شركات التكنولوجيا الكبرى التي تبني نماذج الذكاء الاصطناعي المتقدمة بالاستعانة بقدرات حوسبة متزايدة على نحو مستمر) بين أكبر مشتري الطاقة المتجددة الطويلة الأجل في العالم. تُبنى مزارع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح الخاصة تحديدا لخدمة مرافق الخدمات السحابية، وتستكشف بعض الشركات الجيل التالي من المفاعلات الصغيرة المعيارية كوسيلة لتجاوز البنية الأساسية البلدية الأبطأ.
ستؤدي هذه الجهود في النهاية إلى توسيع حدود الممكن، لكنها لن تقضي على القيود بقدر ما تعيد توجيهها. ومن المرجح أن تتركز الموجة التالية من قدرات الذكاء الاصطناعي ليس في شمال فيرجينيا أو دبلن، بل في مناطق حيث لا تزال الأراضي والطاقة والمياه وفيرة: الغرب الأوسط الأمريكي، والدول الإسكندنافية، وأجزاء من الشرق الأوسط، وغرب الصين. إن جغرافية الذكاء الاصطناعي تكتبها الفيزياء، وليس التفضيلات.
يعكس بعض هذا التحول النضج التكنولوجي الطبيعي. مع زيادة أحمال العمل، تصبح المسرعات المتخصصة أكثر كفاءة من وحدات معالجة الرسومات (GPU) العامة الغرض التي جرى تكييفها في الأصل لتتناسب مع الذكاء الاصطناعي. لكن التوقيت لم يكن مصادفة. فقد تسببت الندرة، والتوترات الجيوسياسية، والضغوط المرتبطة بالتكلفة في دفع شركات الخدمات السحابية العالمية الضخمة إلى الاضطلاع بدور كان محجوزا في السابق لشركات أشباه الموصلات. ولأن الابتعاد عن نظام CUDA البيئي من شركة Nvidia ينطوي على تكاليف تنظيمية هائلة، فإن الاستعداد المتنامي لتحمل هذه التكاليف يشير إلى المدى الذي أصبحت عليه هذه القيود من الشدة.
أما القيد الثالث، وهو رأس المال، فيعمل بطريقة أكثر حذقا ومهارة. تتجاوز خطط الاستثمار التابعة لشركات الخدمات السحابية العالمية الضخمة لعام 2026 الآن 518 مليار دولار، وهو الرقم الذي ارتفع بنحو الثلثين في غضون العام الماضي فقط. نحن نشهد بالفعل أكبر توسع للبنية الأساسية التابعة للقطاع الخاص في التاريخ الحديث. تعمل شركات مثل Meta، وMicrosoft، وGoogle على مراجعة توجيهات الإنفاق الرأسمالي الخاصة على نحو متكرر إلى الحد الذي يجعل المحللين يناضلون لملاحقتها.
مع ذلك، لا يزال من المبكر الحديث عن العوائد الاقتصادية. مؤخرا، أعلنت شركة Baidu عن إيرادات بقيمة 2.6 مليار يوان صيني (369 مليون دولار أمريكي) مرتبطة بتطبيقات الذكاء الاصطناعي، والتي كانت مدفوعة إلى حد كبير بعقود الشركات واشتراكات البنية الأساسية، وتقول شركة Tencent إنها رفعت ربحيتها من خلال الكفاءة المعززة بالذكاء الاصطناعي في مختلف أعمالها الناضجة. ولكن في الولايات المتحدة، لا تزال معظم الشركات تخفي أرباحها من الذكاء الاصطناعي ضمن فئات الخدمات السحابية في عموم الأمر.
لا تستطيع قطاعات عديدة ببساطة تبني الذكاء الاصطناعي بالسرعة التي نشهدها في إصدار النماذج الجديدة. على سبيل المثال، لا تزال البنوك الضخمة مقيدة بأطر الأمن والامتثال التي تتطلب نشر برمجيات معزولة عن الشبكات الخارجية غير الآمنة وقابلة للتدقيق بالكامل في الموقع.
في مجملها، تشير هذه العوامل إلى مستقبل مختلف تماما عن ذلك الذي توحي به الرواية الإعلامية النمطية. الذكاء الاصطناعي لا يتجه نحو حدود عالمية واحدة. بل تتشكل البنى الإقليمية والمؤسسية المتنوعة وفقا لقيود مختلفة
سوف تضطلع القيود الحالية بدور مشابه. فقد بدأت ندرة الطاقة بالفعل في تغيير جغرافية الذكاء الاصطناعي. ويؤدي التشظي المرتبط بالسيليكون إلى خلق أنظمة بيئية وطنية وشركاتية جديدة. كما تدفع التباينات في رأس المال الشركات إلى توازنات استراتيجية مختلفة. وتشكل القيود المؤسسية حالات الاستخدام الحقيقي الأولى.
لن يكون العقد المقبل من الذكاء الاصطناعي ملكا للأنظمة التي تتمتع بقدرات نظرية أكبر، بل ستؤول ملكيته للأنظمة البيئية الأكثر مهارة في تحويل القيود في عالم الواقع إلى مزايا تصميمية. إن الإمكانات تحدد الأفق، لكن القيود ستحدد المسار الذي سيسلكه العالم في نهاية المطاف.
مدير في شركة MindWorks Capital.
خاص بـ "الاقتصادية"
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2025.
www.project-syndicate.org
