محمد الماضي
وصل الإنفاق العسكري العالمي في 2024 إلى نحو 2.7 تريليون دولار، تشكل الولايات المتحدة وحدها نحو 37% منه، بينما تواصل دول الاتحاد الأوروبي رفع ميزانياتها الدفاعية من 218 مليار يورو في 2021 إلى 326 مليار يورو في 2024. وفي عالم يعيد بناء قدراته العسكرية بوتيرة غير مسبوقة، تتحرك السعودية في اتجاه مختلف: ليس فقط زيادة الإنفاق، بل إعادة توجيهه ليصبح استثمارا في صناعة عسكرية وطنية مستدامة تعزز الاقتصاد السعودي، بدلا من كونه فاتورة تسليح تخرج إلى الخارج.
قبل فترة، لم تكن الصناعات العسكرية المحلية سوى نشاط محدود، أما اليوم فالسعودية تضم منظومة أوسع من الشركات الوطنية العاملة في مختلف مجالات الصناعات والخدمات العسكرية، إذ تضم نحو 344 شركة محلية مرخصة تمتد أنشطتها من التصنيع والصيانة إلى الإلكترونيات والحلول التقنية. هذا التوسع يظهر حجم التحول الذي تقوده رؤية 2030، والتي تستهدف توطين أكثر من 50% من الإنفاق العسكري بحلول نهاية العقد.
وقد تجسد هذا التحول في أرقام وبيانات تُبرز التقدم الفعلي على الأرض. فبحلول نهاية 2024، أسهم الإنفاق العسكري المحلي بأكثر من 6.5 مليار ريال في الناتج المحلي الإجمالي، إلى جانب أثر وظيفي نحو 4 مليارات ريال عبر آلاف الوظائف النوعية في الهندسة والتقنية وسلاسل الإمداد. كما شهد الإنفاق العسكري في الميزانية السعودية نموا طفيفا يقدر بنحو 1.1% مقارنة بالعام السابق، في وقت يتجه التركيز بشكل متزايد نحو التوطين وتعزيز المحتوى المحلي، ليصبح الإنفاق على التوطين انتقالا من فاتورة تسليح تخرج إلى الخارج، إلى قيمة اقتصادية تبقى وتنعكس على الداخل.
وضمن الصورة الاقتصادية الأوسع، تشير التقديرات الرسمية إلى أن معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي قد يبلغ نحو 4.6% في 2026، مدفوعا بشكل رئيسي بنمو الأنشطة غير النفطية التي يقودها القطاع الخاص بوصفه المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي في المرحلة المقبلة. ويأتي توطين الصناعات العسكرية كأحد أهم مسارات هذا التحول، عبر بناء قاعدة صناعية وتقنية جديدة تسهم في تنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على النفط.
في قلب مشهد التوطين، تقف الشركة السعودية للصناعات العسكرية (SAMI) كأحد أهم أذرع التصنيع العسكري في السعودية، ضمن منظومة أوسع من الكيانات الحكومية والخاصة العاملة في قطاع الدفاع. وقد حققت الشركة نموا سنويا في الإيرادات يبلغ نحو 21%، وتقدمت إلى المركز 79 عالميا ضمن قائمة أكبر 100 شركة دفاع. وعلى مستوى هيكل الإيرادات، شكلت أنشطة التصنيع الدفاعي نحو 83% من إيرادات الشركة في 2022، التي بلغت نحو مليار دولار، ما يظهر تركيزا متناميا على التصنيع وبناء القدرات الصناعية المحلية، لا مجرد تقديم خدمات مساندة.
كما عززت الشركة مسار التوطين عبر إبرام اتفاقيات إستراتيجية مع شركات عالمية مثل لوكهيد مارتن وإيرباص هيليكوبترز، بهدف تطوير قدرات السعودية في مجالات الصيانة والإصلاح والتجديد. وقد أسهمت هذه الاتفاقيات في نقل جزء كبير من أعمال الصيانة الثقيلة التي كانت تنفذ في الخارج إلى بنية تحتية محلية، بما يصاحب ذلك من نقل للتقنية وتدريب للكوادر السعودية على منظومات متقدمة، الأمر الذي يرفع جاهزية الأسطول العسكري ويحد من التكاليف ويعزز كفاءة التشغيل.
الصورة الأوسع تشير إلى أن الصناعات العسكرية في السعودية تنتقل من مرحلة شراء السلاح وصيانته في الخارج إلى بناء منظومة دفاعية متكاملة تشمل التصنيع والتطوير الهندسي وسلاسل التوريد، مدعومة بإطار تنظيمي من الهيئة العامة للصناعات العسكرية.
في المحصلة، لا يقتصر أثر هذا التحول فيتعزيز القدرات الدفاعية الذاتية، بل يؤسس لقطاع اقتصادي متقدم يدعم المحتوى المحلي، ويولد وظائف نوعية، ويبني قاعدة صناعية وتقنية يمكن أن تمتد انعكاساتها لعقود. وفي عالم يعيد تشكيل موازين القوة، تتحرك السعودية بثبات لتكون من الدول التي تصنع قدراتها، وتحوّل قطاع الدفاع إلى رافد اقتصادي مستدام.
كاتب ومحلل في شؤون المال والأعمال
