أحدث التداول الخوارزمي (Algorithmic Trading) ثورة في الأسواق المالية وقوة تحولية من خلال أتمتة عملية تنفيذ الصفقات بشكل آلي بالاعتماد على تعليمات مبرمجة مسبقًا تتضمن نماذج رياضية متطورة لتحقيق سرعة وكفاءة لا يمكن للمتداولين البشر تحقيقها بنفس القدرة.
كما يجمع التداول الخوارزمي بين البرمجة والتداول في الأسواق المالية وأصبح له دور كبير في تشكيل الأسواق المالية في السنوات الأخيرة، لذا يعد القطاع المالي الأسرع في التوجه والتطور نحو الرقمنة وترتبط نشأة التداول الخوارزمي بتطوير منصات التداول الإلكترونية ورقمنة الأسواق المالية بشكل متسارع ما بين الدول وسرعة الإنترنت حيث تعتمد الخوارزميات بشكل أساسي على المدخلات البشرية ويتم إجراء الاختبارات اللازمة على البيانات التاريخية للتأكد من فعالية الإستراتيجيات المطبقة.
ويعمل التداول الخوارزمي من خلال استخدام برامج حاسوبية يتم من خلالها وضع الإستراتيجيات والأوامر الخوارزمية لمتابعة التداول وتحليله واتخاذ القرارات الاستثمارية تلقائياً بالاعتماد على تلك العمليات الحسابية والتحليل الفني ومن أكثر إستراتيجيات التداول الخوارزمي شيوعاً هي استراتيجيات تتبع الاتجاهات مثل اتجاهات المتوسطات المتحركة واختراقات القنوات وهناك طريقتان للتداول الخوارزمي هما التداول عالي التردد والتداول الكمي.
ومن حيث واقع الممارسات العالمية، ترجع بداية أتمتة تنفيذ الصفقات بشكل آلي على مستوى الدول المتقدمة إلى منتصف السبعينات الميلادية بشكل متسارع وتحولات سريعة بتطور التقنية والرقمنة، ويُستخدم التداول بناء على الخوارزميات في أغلب الأسواق العالمية من خلال المؤسسات المالية، صناديق الثروة السيادية، الصناديق الاستثمارية، صناديق التقاعد، صناع السوق والأفراد بنسبة أقل، وفي السعودية يضاف لتلك الفئات المستثمر الأجنبي، ويتم تصنيف المستثمرين فيها ما بين مستثمر مؤسسي ومستثمر غير مؤسسي، وقد انطلقت رحلة المملكة في بداية التسعينات الميلادية من حيث عملية الأتمتة في آلية التنفيذ وما تبعها من تطورات في بيئة السوق المالية.
ويتميز التداول بناءً على الخوارزميات بالمراقبة الفورية لحركة الأسعار، السرعة الفائقة، أحجام التداول الكبيرة، الكفاءة العالية، يزيد من سيولة الأسواق، يقلل من تأثير العاطفة مما يؤدي إلى انخفاض في التداول العاطفي (غير العقلاني) في السوق ويجعل التداول أكثر منهجية، خفض تكاليف الصفقات.
وقد يعاب على التداول بناءً على الخوارزميات التكلفة لبناء الأنظمة، عدم الأخذ في الاعتبار العوامل اللحظية المؤثرة على الأسواق، والتأثير الكبير على الأسعار بشكل سريع مما يزيد من سرعة تقلبات الأسواق كما حدث في 2010 بانهيار مفاجئ لمؤشر داو جونز الصناعي والذي ارتبط بالتداول بناءً على الخوارزميات، كذلك حادثة شركة نايت كابيتال بخسارة تقدر 460 مليون دولار في أقل من ساعة نتيجة خطأ برمجي أدى لتنفيذ أوامر خاطئة، وماحدث من تقلبات عالية في صناديق المؤشرات المتداولة.
وأخيراً، أصبح التداول الخوارزمي قوة مهيمنة بشكل متزايد على الأسواق، فمنذ بداية الألفية كانت تداولات الخوارزميات محدودة جداً في الأسواق المتقدمة، ومع بداية 2010 أصبحت قيمة التداول في الأسواق المتقدمة بناءً على الخوارزميات تشكل ما بين 50% إلي 70% من قيمة التداولات في معظم الأسواق المتقدمة، وقد وصلت إلى نسبة 85% خلال فترات التقلبات العالية في الأسواق، مما استدعى الجهات التنظيمية حول العالم إلي سرعة إصدار عديد من التنظيمات لها مثل دول( الولايات المتحدة الأمريكية، المملكة المتحدة، كندا، استراليا، اليابان، الهند وسنغافورة) لمعالجة مخاطر التداول الخوارزمي، منها على سبيل المثال لا الحصر: التحقق منها قبل التداول، الإيقاف الفوري للخوارزميات في حالات معينة، الاختبار المسبق لها والتسجيل لدى الجهة المشرفة، الحد من مخاطر التداولات فائقة السرعة من خلال إبطاء التداول بمقدار 350 ميكروثانية على جميع الأوامر،إيقاف التداول عند الهبوط بنسبة محددة وغيرها.
أما في السعودية فتشكل نسبة التداول من خلال الخوارزميات ما يصل إلى 25% من قيمة التداولات وفق تصريح رئيس هيئة السوق المالية، وعند قياسها بشكل إجمالي سنوي سنجد أنها ستصل إلي ما يزيد عن 800 مليار ريال سنوياً تقريباً، وتشير أغلب الدراسات إلى ارتفاع قيمة التداول بناءً على الخوارزميات في المستقبل نتيجة الطلب المتزايد على تنفيذ الأوامر بشكل سريع، ومع التطور المستمر لاستراتيجيات التداول الخوارزمي سيتطلب الأمر النظر في البيئة التنظيمية والرقابية لها والتي قد تتطلب دراسة متأنية للمخاطر والآثار التنظيمية المرتبطة بها وإصدار التنظيمات الخاصة بها في ظل تداعيات فقاعة الذكاء الاصطناعي.
باحث متخصص في الاستدامة والحوكمة، الأسواق المالية، المال والاقتصاد
