نندفع اليوم نحو مستقبلٍ أنظف وأكثر استدامة، معتمدين على الطاقة المتجددة بوصفها الحل السحري لأزمات الكوكب. لكن وسط هذا الاندفاع العالمي نحو “التحول الأخضر”، يبرز سؤال لم نطرحه بالجدية الكافية: هل يمكن تحقيق التحول البيئي دون أن ندفع ثمنه المائي؟
فالماء ليس مجرد عنصرٍ ثانوي في معادلة الطاقة المتجددة والنظيفة، بل هو حدّها الفيزيائي الأقصى. فكل كيلوواط من الطاقة النظيفة يمرّ عبر سلسلة إنتاج تستهلك ماءً في التصنيع والتبريد والتنظيف، وكل مترٍ مكعب من المياه الصالحة للشرب يحتاج طاقة للضخ والتحلية والمعالجة. هكذا أصبحنا نعيش داخل منظومةٍ مترابطة فيها الماء والطاقة والغذاء يتبادلون الأدوار والمخاطر بحيث لم يعد من الممكن فصل أحدها عن الآخر.
تشير الوكالة الدولية للطاقة المتجددة (IRENA) إلى أن الأنظمة التي تعتمد على مصادر الطاقة المتجددة تكون أقل استهلاكًا للمياه من الأنظمة القائمة على الوقود الأحفوري. فالرياح والشمس لا تحتاجان إلى كميات كبيرة من المياه أثناء التشغيل، لكن هذه الفوائد لا تتحقق تلقائيًا، بل تحتاج إلى سياسات متكاملة تُنسّق بين الزراعة والطاقة والمياه لضمان الكفاءة والاستدامة في الوقت نفسه.
في المقابل، تُظهر بعض التجارب أن وصف “الطاقة المتجددة” لا يعني بالضرورة “طاقة خضراء”. فبحسب تقرير WET Tirol (2024)، تمثل مشاريع الطاقة الكهرومائية رغم تجددها الطبيعي تهديدًا مباشرًا للأنهار والأنظمة البيئية المائية. فالسدود والخزانات تقطع مجرى الأنهار وتفصل المواطن البيئية، كما تطلق كميات كبيرة من غازات الدفيئة نتيجة تحلل المواد العضوية تحت الماء. ورغم أن هذه المشروعات توفر كهرباء نظيفة على الورق، إلا أنها قد تخلق تلوثًا بيئيًا من نوعٍ آخر. غير أن هذا لا يعني رفضها بالكامل، بل يستدعي تصميمها وتنظيمها بوعيٍ بيئي صارم يوازن بين الفائدة الطاقية والحفاظ على دورة الحياة المائية.
وفي الجهة المقابلة من المشهد، تبرز حلولٌ مبتكرة تجمع بين الكفاءة الطاقية والمائية في آنٍ واحد. ففي دراسةٍ نشرتها الـ BBC عام 2019 عن أبحاث جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (KAUST)، طوّر الباحثون نموذجًا يجمع بين اللوح الشمسي وجهاز تحلية مائي في وحدة واحدة، بحيث تُستغل الحرارة المهدورة من الألواح الشمسية في تبخير مياه البحر وتحويلها إلى مياهٍ صالحة للشرب. هذه التجربة لم تقدم فقط كفاءةً كهربائية أفضل، بل قدّمت فكرة جديدة عن “الاستدامة الذكية” — أي تحويل الترابط بين الموارد إلى ميزةٍ إنتاجية بدل أن يكون عبئًا بيئيًا.
أما على مستوى الاقتصاد الكلي، فيؤكد البنك الدولي (2022) أن العالم يتجه نحو فجوة مائية خطيرة: فمن المتوقع أن يبلغ العجز بين العرض والطلب على المياه 40% بحلول 2030، بينما قد تصل خسائر الفيضانات والجفاف إلى 5.6 تريليون دولار بحلول 2050. وحتى النشاط الاقتصادي يتراجع في فترات الجفاف بنسبةٍ تصل إلى 2.5 نقطة مئوية. ورغم هذه التحديات، تُظهر البيانات أن الاستثمار في المياه ليس عبئًا بل فرصة اقتصادية واعدة: فكل دولار يُستثمر في إدارة المياه يحقق عائدًا يعادل أربع دولارات من خلال خفض التكاليف الصحية وزيادة الإنتاجية.
إن الماء، كما يصفه البنك، ليس موردًا بيئيًا فحسب، بل محرك للنمو الأخضر وبوابةٌ للعدالة والاستقرار. ومن دون إدارة ذكية لهذا المورد، لا يمكن لأي تحول بيئي أو اقتصادي أن يستمر.
وما خلصت إليه أبحاث منشورة في مجلة Environmental Science & Pollution Research (Springer, 2020) يؤكد أن الحلول التقنية وحدها ليست كافية، ما لم تُرافقها رؤية اقتصادية متكاملة. فالكفاءة شرط للبقاء في عالمٍ يتجه نحو الندرة خصوصاً في المورد المائي. لذا فكل ابتكار في الطاقة النظيفة يجب أن يُقاس أيضًا بمقدار ما يستهلكه من الماء، لا بما ينتجه من الكهرباء فقط.
فالتحول الأخضر هو ليس فقط سباق في إنتاج الطاقة فحسب، بل هو امتحان في كيفية إدارة الموارد التي تُغذي هذا التحول. فحين نُدرك أن الماء هو القاعدة الخفية التي يقوم عليها الاقتصاد الأخضر، سنكفّ عن التعامل معه كموردٍ مجاني وحل طاقي، وسنراه كما هو حقًا: موردًا إستراتيجياً يحدد استقرار العالم أكثر مما تفعل أسعار النفط. في النهاية، التحول الأخضر لا ينجح إلا إذا كان تحوّلًا مائيًا أيضًا. فالماء هو الشاهد الصامت على نجاحنا أو فشلنا في بناء مستقبلٍ مستدام. إن أحسنّا إدارته، سيسقي التنمية والعدالة معًا. وإن تجاهلناه، فسنكتشف متأخرين أن كل الطاقة في العالم لا تكفي لإرواء عطش كوكبٍ جاف.
مستشار في الشؤون الدولية والإستراتيجيات العالمية