د نوف البلوي
ساد في الأوساط الاقتصادية وكليات إدارة الأعمال لعقود طويلة مبدأ استقراري يُعرف بـ "جُبن رأس المال"؛ ويُقصد به الميل التلقائي للتدفقات المالية للهروب من مناطق النزاع والضبابية السياسية نحو الملاذات الآمنة. إلا أن قراءة المؤشرات الحالية تكشف عن أن هذه القاعدة الراسخة تشهد اليوم تحولاً بنيوياً عميقاً، يؤذن بصعود ما يمكن تسميته بـ "رأس المال الجيوسياسي"؛ حيث لم تعد الاستثمارات تفر من المخاطر، بل باتت تُوجَّهُ إستراتيجياً لاختراقها مدعومةً بإرادة سياسية صريحة. هذا التغير ليس مجرد تعديل في "شهية المخاطرة" لدى المستثمرين، بل هو نتيجة حتمية لحقيقة أن المنافسة الجيوسياسية قد أوجدت مفهوماً جديداً كلياً للتنمية؛ مفهوم لم تعد فيه مشاريع البنية التحتية "أعمالاً خيرية" أو مسؤولية اجتماعية للدول، بل تحولت إلى "أصول للأمن القومي".
ولفهم عمق هذا التحول في النموذج، يكفي النظر إلى إعادة الهندسة الجذرية لأدوات التمويل الأمريكية. فلعقود خلت، اعتمدت واشنطن على "الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية" (USAID) كذراع للقوة الناعمة عبر تقديم المنح والمساعدات الإنسانية. ومع أن هذا النموذج كان فعالاً في الإغاثة، إلا أنه وقف عاجزاً أمام "نموذج القروض والبنية التحتية" الذي تتبناه الصين.
لذا، لم تكن الاستجابة الإستراتيجية عبر إصلاح النظام القديم، بل عبر توفير أداة جديدة كلياً تتمثل في "مؤسسة التمويل الإنمائي" (DFC). والفارق الجوهري هنا يكمن في الانتقال من مربع "الدبلوماسية الإنسانية" إلى مربع "الاستثمار الإستراتيجي"؛ إذ تمتلك هذه المؤسسة صلاحيات تشبه صناديق الملكية الخاصة، بما في ذلك القدرة على الاستحواذ على حصص في الشركات وتقديم ضمانات للقروض، ما يتيح لها العمل في أسواق عالية المخاطر كانت تُصنف سابقاً بأنها "غير قابلة للاستثمار".
وهنا تبرز الدلالة العميقة للتعيينات الأخيرة في قيادة هذه المؤسسة، التي شملت شخصيات محسوبة على تيار التشدد السياسي ضمن مجلس إدارة يضم أقطاب الأمن القومي. هذه التغييرات ترسل إشارة واضحة للأسواق بأن المؤسسة لا تعمل وفق معايير الربحية التقليدية قصيرة الأجل، بل وفق معيار "العائد الإستراتيجي على الاستثمار".
فالمهمة الأساسية لم تعد مجرد التمويل، بل "الإزاحة"؛ أي الدخول في مشاريع حيوية كالموانئ والمعادن النادرة بهدف منع الخصوم الجيوسياسيين من السيطرة عليها، حتى لو تطلب ذلك تحمل مخاطر مالية لا يقبلها القطاع الخاص منفرداً.
ولعل مشروع "ممر لوبيتو" في إفريقيا يُعد التطبيق العملي الأبرز لهذا النموذج المستحدث. فعندما يمول التحالف الغربي سكة حديد لربط مناجم الكوبالت في الكونغو بالمحيط الأطلسي، فإن الهدف يتجاوز التنمية الاقتصادية المحلية بكثير؛ إنه إجراء استباقي لتأمين "سلاسل الإمداد" الخاصة بصناعة البطاريات والمركبات الكهربائية بعيداً عن الهيمنة الصينية. في هذه الحالة، التنمية هي الأداة، لكن الهدف النهائي هو أمن الطاقة والتفوق الصناعي.
اليوم نحن أمام واقع أسقطت فيه المنافسة الجيوسياسية حياد رأس المال، وخلقت بيئة أعمال جديدة ترتدي فيها التنمية "عباءة الأمن القومي". هذا الواقع يفرض على الدول النامية التعامل مع التنمية كـ "سلعة تنافسية" قابلة للتفاوض، كما يفرض على قادة الأعمال والمستثمرين إدراك أن الفرص الكبرى القادمة لن تكون في الأسواق المستقرة فحسب، بل في تلك التي تشهد تنافساً دولياً، حيث تتدخل الحكومات لتقليل المخاطر وتوفير الغطاء السياسي لرأس المال الذي لم يعد جباناً، بل أصبح جزءاً من الترسانة الإستراتيجية للدول.
مستشار في الشؤون الدولية والإستراتيجيات العالمية
