عبد الرحمن النمري
في عالم يتغير بوتيرة متسارعة، لم يعد استشراف المستقبل ترفا فكريا أو خيارا ثانويا، بل أصبح في اعتقادي ضرورة إستراتيجية لاستقرار الدول واستدامة اقتصاداتها. في رأيي، كل القطاعات دون استثناء تحتاج إلى منظومات استشراف دقيقة، لأن القدرة على قراءة التحديات المستقبلية واستباق التحولات تمنح الدول ميزة تنافسية حقيقية، وتجنبها صدمات وتقلبات مفاجئة قد تعرقل النمو والتقدم.
أعتقد أن الاقتصادات الحديثة لا تدار بردود الفعل، بل تدار برؤية وتحليل عميق وقراءة واعية لمستقبل المعطيات.
الجدير بالذكر، كون الاستشراف مهما في كل القطاعات، فإنه في قطاع الطاقة يصبح ضرورة ملحة، حيث إن هذه الصناعة لا ترتبط فقط بالنمو الاقتصادي، بل تعد العمود الفقري لجميع القطاعات الأخرى كالصناعة والنقل والخدمات والتقنية الحديثة والذكاء الاصطناعي وغيرها.
أي خلل في منظومة الطاقة سواء في الأسواق أو الإنتاج أو الإمدادات ينعكس في رأيي مباشرة على الاستقرار الاقتصادي العالمي، ولذلك، فإن استشراف مستقبل الطاقة ليس مجرد توقع للأسعار أو تقدير للاستهلاك، بل هو رؤية شاملة تشمل تحولات الأسواق ومسارات الصناعة وتطور التقنيات، إضافة إلى مستقبل الإمدادات واحتياجات الاقتصاد العالمي.
قطاع الطاقة اليوم يمر بمرحلة تاريخية من إعادة التشكيل، مع صعود الطاقة المتجددة، وطفرة الطلب على الكهرباء، وتزايد استهلاك مراكز البيانات والذكاء الاصطناعي، إضافة إلى تحديات سلاسل الإمداد والاضطرابات الجيوسياسية. لأن العالم أصبح يعتمد على استشراف هذا القطاع لتفادي الأزمات، فإن الدول التي تمتلك القدرة على قراءة المستقبل وقيادة التحولات ستكون صاحبة التأثير الأكبر في المشهد العالمي.
تبرز السعودية كأنموذج عالمي فريد في استشراف مستقبل الطاقة وقيادته، كونها لا تدار بمنطق رد الفعل، بل بسياسة المبادرة، فالسعودية باعتبارها أكبر مصدر للطاقة في العالم وصاحبة أكبر طاقة إنتاجية فائضة، وضعت استشراف المستقبل في صميم إستراتيجياتها، سواء من خلال رؤية 2030، أو من خلال الاستثمارات الهائلة في تنويع مصادر الطاقة التقليدية والمتجددة، أو عبر بناء منظومة متكاملة تُوازن بين استدامة الأسواق وتطور الصناعة وموثوقية الإمدادات.
في رأيي أبرز ما يميز الأنموذج السعودي هو القدرة على قراءة التحولات قبل حدوثها، فالسعودية استشرفت مبكرا أن المستقبل لن يكون حكرا على مصدر وحيد للطاقة، بل لمزيج متنوع يشمل النفط والغاز والهيدروجين والطاقة المتجددة والنووية، وبدأت في بناء قدرات ضخمة في كل هذه المسارات، مع الحفاظ على أمن الإمدادات العالمية.
وفي الوقت نفسه، تستثمر السعودية في تقنيات حديثة مثل احتجاز الكربون، وإنتاج الوقود النظيف، وتوطين الصناعات المرتبطة بالطاقة، ما يجعلها لاعبا رئيسيا في أسواق المستقبل وليس فقط الحاضر.
السعودية اليوم ليست مجرد دولة منتجة للطاقة، بل دولة صانعة لمستقبل الطاقة. أنموذجها في الاستشراف يشكل مرجعا عالميا للمنصفين، ورؤيتها تتجاوز إدارة الحاضر إلى صناعة غد أكثر استدامة، وأكثر قدرة على مواجهة التحولات العميقة التي يشهدها العالم.هذا هو جوهر قيادة المستقبل في اعتقادي الذي يشمل الرؤية والاستشراف، واتخاذ قرارات حكيمة وعملية اليوم، تبني اقتصاد الغد.
مختص في شؤون الطاقة
