في عالم التكنولوجيا الذي لا يهدأ، يبدو أن مقولة "أبقِ أصدقاءك قريبين وأعداءك أقرب" لم تعد مجرد نصيحة بل تحوّلت إلى إستراتيجية عمل.
فسباق الذكاء الاصطناعي الذي أشعل نار المنافسة بين عمالقة وادي السيليكون، من مايكروسوفت إلى جوجل وميتا وإنفيديا، دفع الجميع إلى مائدة واحدة، يتصارعون عليها بيد ويتصافحون باليد الأخرى.منذ 2023، استثمرت شركات التكنولوجيا الكبرى مئات المليارات في سباق تطوير النماذج الأكثر تطورًا والوصول إلى أقوى بنية تحتية للحوسبة وأفضل الباحثين. رغم التركيز الشديد على "حرب" الذكاء الاصطناعي، فإن هناك ملامح تعاون غير مسبوق ظهرت بين الخصوم، حسب "بزنس إنسايدر".
في الأسابيع الأخيرة فقط، وقّعت شركة أوبن أيه آي صفقة بقيمة 300 مليار دولار مع أوراكل للوصول إلى قدراتها الحوسبية، رغم أن "أوبن أيه آي" مدعومة أساسًا من منافستها مايكروسوفت. وفي المقابل، عقدت ميتا صفقة بـ10 مليارات دولار مع جوجل كلاود، بينما فتحت مايكروسوفت خدماتها أمام نماذج أنثروبيك التي تعمل على سحابات أمازون وجوجل. النتيجة؟ شبكة معقدة من العلاقات بين المنافسين، يصعب التمييز فيها بين التحالف والمنافسة.
لا تقتصر صفقات الذكاء الاصطناعي هذه على الديون فحسب، بل إنها تُشكل أيضًا تبعيات معقدة ما تخلق اعتمادا متبادلا يمكن أن يتحول إلى عبء ثقيل.
في أواخر سبتمبر، أعلنت إنفيديا عن استثمار بقيمة 100 مليار دولار في أوبن أيه آي، والتي بدورها تخطط لبناء لا يقل عن 10 جيجاوات من مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي باستخدام رقائق إنفيديا.
تشبه هذه العلاقة إلى حد كبير ما قامت به شركة "سيسكو" في التسعينيات عندما منحت قروضًا لعملائها لشراء معداتها، تجربة انتهت بانهيارات مالية مؤلمة.
هذه العلاقات المتشابكة ليست جديدة في وادي السيليكون، لكنها الآن أكثر جرأة. دفعت جوجل في 2022 أكثر من 20 مليار دولار لآبل لتكون محرك البحث الافتراضي في أجهزة آيفون، رغم أنهما منافسان مباشران.
في مؤتمرات التكنولوجيا الأخيرة، تحدث مسؤولو "أوبن أيه آي" و"ميتا" علنًا عن اعتمادهم على جوجا كلاود، حتى أن آبل قامت بتدريب ذكائها الاصطناعي على وحدات معالجة تينسور من جوجل، وفقًا لما ذكره موقع بزنس إنسايدر سابقا. وفي مشهد أكثر تناقضا، تقدم جوجل لعملائها شرائح إنفيديا المنافسة ضمن خدماتها السحابية نفسها.
هذه العلاقات لم تأتِ من فراغ، بل فرضها تسارع ثورة الذكاء الاصطناعي التي باغتت الشركات الكبرى، فوجدت نفسها مضطرة إلى التعاون مع منافسيها لتجنّب التأخر في السباق.
يقول المحلل ريتشي جالوريا من بنك آر بي سي: " يدرك الناس صعوبة بناء نماذج لغوية كبيرة، وهي ليست صعبة فحسب، بل إنها مكلفة للغاية. فكيف تستفيد من ذلك دون تحمل العبء المالي على ميزانيتك؟".
لكن هذا "التعاون الإجباري" يحمل في طيّاته مخاطر إستراتيجية طويلة الأمد. فبينما تعتمد "أوبن أيه آي" اليوم على خدمات جوجل ومايكروسوفت، فإنها في الوقت نفسه تبني مراكز بياناتها الخاصة التي قد تنافس هذه الشركات مستقبلا.
ومن الأمثلة على ذلك استثمار أمازون 4 مليارات دولار في أنثروبيك، التي اختارت بدورها Amazon Web Services كـ "مُزوّد السحابة المُفضّل". وهنا تزداد الأمور تعقيدًا: جوجل أيضًا مستثمرة في أنثروبيك، مما يعني أن استثمارها مرتبط أيضًا بأداء أحد أكبر منافسيها.
في ضوء ذلك، يبدو أن ما يجري في سوق الذكاء الاصطناعي ليس فقاعة عابرة بقدر ما هو إعادة تشكيل لاقتصاد التكنولوجيا على نطاق أوسع. فطالما أن الطلب الحقيقي قائم، فإن ضخ الاستثمارات وتحفيز السوق من قبل عمالقة مثل «إنفيديا» و«أوراكل» يُعدّ جزءًا طبيعيًا من ديناميكية النمو.
قد تتأثر بعض الشركات الضعيفة أو المبالغة في رهاناتها، لكن الاتجاه العام يشير إلى مرحلة نضج جديدة تُوازن بين التوسع السريع والواقعية الاقتصادية تمامًا كما تعمل الأسواق عندما تُترك لتصحح نفسها.