في الوقت الذي تتسارع فيه وتيرة التحول نحو الاقتصاد الرقمي والطاقة النظيفة، يعود النحاس إلى الواجهة مجددا بوصفه المعدن الذي لا غنى عنه في بنية الاقتصاد العالمي الحديث. فبعد أن كان ينظر إليه تاريخيا كإحدى ركائز البنية التحتية التقليدية، أصبح اليوم في قلب الثورة الصناعية الجديدة التي تعتمد بشكل متزايد على الذكاء الاصطناعي.
تشير أغلب التقديرات إلى أن الطلب العالمي على النحاس سيرتفع بنسبة تقارب 24% بحلول عام 2035، وهو ارتفاع يتوقع أن يترافق مع تقلبات حادة في الأسعار.
ويعزى هذا النمو إلى مجموعة معقدة من العوامل، ويتوقع أن تسهم الطفرة في تقنيات الذكاء الاصطناعي وحدها في إضافة نحو ثلاثة ملايين طن سنويا إلى الطلب العالمي.
وتقول لـ"الاقتصادية" الدكتورة بربارة فوكس، أستاذة الاقتصاد الدولي: "تمثل مراكز البيانات العامل الأكثر تقلبا في توقعات الطلب على النحاس، والمتوقع أن يرفع ذلك الطلب في البنية التحتية للشبكات الكهربائية إلى 1.1 مليون طن نحاس سنويا بحلول عام 2030".
حاليا تمثل أسعار النحاس أقل من 0.5% من إجمالي تكاليف المشاريع المتعلقة بالذكاء الاصطناعي، وهو ما يجعل مطوري مراكز البيانات أقل حساسية تجاه تحركات الأسعار. لكن المحللين يحذرون من أن هذا الواقع قد يتغير قريبا.
وهنا يقول لـ"الاقتصادية" المحلل المالي في بورصة لندن، ستيف جريفيث: "تظهر مراكز البيانات طلبا غير مرن على النحاس، فعندما يحتاج المطورون إلى المعدن لتوسيع قدراتهم، فإن الأسعار لا تشكل عائقا كبيرا أمامهم، هذه الديناميكية في قطاع ناشئ تجعل الطلب على النحاس متقلبا وغير متوقع خلال هذا العقد".
وإلى جانب الذكاء الاصطناعي، يمثل التحول العالمي في قطاع الطاقة عاملا محوريا في رسم ملامح مستقبل النحاس، فالانتقال إلى مصادر الطاقة المتجددة سيضيف ما يقارب مليوني طن إضافي من الطلب سنويا خلال العقد المقبل، لترتفع احتياجات القطاع من 1.7 مليون طن حاليا إلى نحو 4.3 ملايين طن سنويا في أقل من عقدين، بمعدل نمو سنوي يبلغ نحو 10%.
من جانبه، يقول لـ"الاقتصادية" دي بارنز الباحث في مجال التقنيات الحديثة: "تحتوي السيارة الكهربائية الواحدة على ما يصل إلى أربعة أضعاف كمية النحاس المستخدمة في السيارة التقليدية، كما أن البنية التحتية لشحن المركبات وأنظمة الطاقة تتطلب كميات ضخمة من النحاس".
أضاف، "خلال العقدين القادمين، من المتوقع أن يتضاعف الطلب على النحاس في هذا القطاع، ما يعزز مكانة المعدن الأحمر في صميم التحول العالمي نحو الطاقة النظيفة".
ولا تقتصر العوامل المحفزة للطلب على الذكاء الاصطناعي والطاقة، إذ تبرز الهند ودول جنوب شرق آسيا كمحركات قوية جديدة لاستهلاك النحاس، مدفوعة بنشاط صناعي متنام.
وتشير التقديرات إلى أن الطلب السنوي على النحاس سيرتفع في الهند بنسبة 7.8%، وفي دول جنوب شرق آسيا بنسبة 8.2% سنويا، بينما سيزيد الطلب الصيني بنحو 5.5 ملايين طن سنويا نتيجة احتياجاتها المتزايدة في قطاعات الطاقة والبناء، وهو ما قد يدفع الطلب العالمي إلى مستويات غير مسبوقة.
لكن تلبية هذا الطلب المتنامي لن تكون مهمة سهلة. إذ ستحتاج صناعة التعدين إلى زيادة الطاقة الإنتاجية للمناجم بأكثر من ثمانية ملايين طن سنويا، بالإضافة إلى نحو أربعة ملايين طن من النحاس المعاد تدويره.
ومع استمرار القيود على جانب العرض، واحتمالات عدم قدرة الدول المنتجة على مجاراة الطلب، يرجح أن تشهد الأسواق موجات ارتفاع قوية في الأسعار خلال السنوات المقبلة.
ويرجح ستيف جريفيث أن يراوح سعر الطن المتري بين 19 و22 ألف دولار بحلول عام 2030، خاصة مع بروز مؤشرات على عجز في السوق خلال العام المقبل، ما يجعل النحاس مرشحا ليكون أحد أبرز المعادن الصاعدة في العقد القادم.