من الفقر والطفولة المتواضعة إلى المجد العلمي والحصول على أرفع الجوائز الدولية، مشوار لم يكن سهلًا على العالم السعودي عمر ياغي الذي أعلنت الأكاديمية الملكية السويدية حصوله على جائزة نوبل للكيمياء هذا العام مع كل من سوسومو كيتاغوا و ريتشارد روبسون تقديرًا لتطويرهم "أطرًا معدنية عضوية"، وقد وصف "ياغي" هذا المشوار عبر موقع الجائزة قائلًا "كانت رحلة طويلة فقد سكنت غرفة واحدة مع 9 أخوات لكن الإصرار دفعني للأمام".
ولد عمر ياغي في شقة صغيرة بالعاصمة الأردنية عمان يوم 9 فبراير 1965 لعائلة لاجئة من فلسطين، وعاش طفولة صعبة وسط انقطاع دائم للمياه والكهرباء ولأب وأم بالكاد يعرفان القراءة والكتابة، وبمجرد دخوله المدرسة الابتدائية فتن بالكيمياء وخاصة الرسوم الجزيئية التي كان يراها في مكتبة المدرسة ولا يفهم معناها، رغم ذلك شعر بأنها "بوابته للعالم" كما أوضح لاحقًا في حوار مع الـ"واشنطن بوست".
انتهت عمّان بالنسبة إليه في عمر الـ15 حين أتم دراسته الثانوية، ثم انتقل بعدها إلى كلية مجتمع هدسون فالي بالولايات المتحدة الأمريكية، وحين وصل واجه عدة عوائق أبرزها اللغة فاضطر إلى قضاء فترة تعلم فيها الإنجليزية والرياضيات ثم اتجه إلى الكيمياء التي حصل فيها على شهادة الدكتوراة عام 1990 من جامعة إلينوي وهو في الـ35 من العمر ما اعتبره أساتذته نبوءة لولادة عالم كبير، خاصة أن "ياغي" عمل بالتزامن زميل في جامعة هارفارد ثم درس في جامعة أريزونا في الفترة من (1992-1998) وكذلك جامعة ميشيغان (1999-2006) وجامعة كاليفورنيا لوس أنجلوس (2007-2012) ثم جامعة كاليفورنيا بيركلي بداية من 2012، ويعمل الآن في مختبر لورانس بيركلي الوطني كما أنه مؤسس لمختبر بيركلي العالمي للعلوم بجانب عدة وظائف أخرى.
خلال تلك الرحلة الأكاديمية برز اسم عمر ياغي كأحد رواد تخصص "الكيمياء الشبكية" في العالم، وخصوصًا تطوير الهياكل المعدنية العضوية والتي تظهر أهم تطبيقاتها في استخراج المياه من الهواء حتى في البيئات الجافة أو الصحراوية ، وتخزين الغازات وتنقية الهواء وتطوير مواد ذات مسامية عالية للتطبيق في الطاقة والبيئة، وساعد من بروز وأهمية دوره تكلفة الحصول على مياه نظيفة في العالم والتي وصلت إلى 150 مليار دولار سنويًا في 2017 بحسب تقديرات البنك الدولي.
هذا التخصص بالتحديد اختاره "ياغي" لعدة أسباب تلخص نظرته للحياة، إذ أوضح في تصريحات سابقة لـ"أراب نيوز" أنه لا يريد صنع أبحاث معقدة بل يريد أن يعمل على أبحاث يمكن تطبيقها لحل مشاكل يعيشها الناس مثل نقص المياه في الأماكن الجافة، إضافة إلى إيمانه بضرورة دعم الدول النامية أو الفقيرة علميًا لعيشوا حياة أفضل ومستوى صحي جيد.
شهدت السعودية على الولادة الثانية لعمر ياغي الذي تعرف على السعودية من خلال التعاون البحثي وتبادل الخبرات بين مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية وجامعة كاليفورنيا بيركلي، وكانت مجالات التعاون هي النانو والطاقة النظيفة والترشيد العلمي، ولم يكن العالم الكبير في حاجة إلى معرفة مكانة السعودية ووضعها الدولي والإقليمي فسرعان ما تكثف التعاون والتنسيق.
بعد أشهر قليلة من هذا التعاون حصل "ياغي" على جائزة الملك فيصل العالمية للعلوم عام 2015 وهي إحدى أرفع الجوائز التي تمنح للأفراد المتميزين عالميًا في مجالات العلم والمعرفة، ونتج عن هذا التتويج انتشار اسم عمر ياغي في الأوساط السعودية وباتت مؤسسات الإعلام تتحدث عنه ويعرف السعوديين اسمه، كما أدى إلى تعاون أعمق إذ زار "ياغي" جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، كما زار فريق الأبحاث الذي يعمل مع شركة أرامكو على مشاريع التقاط واستخدام ثاني أكسيد الكربون.
في 2021 صدر مرسوم ملكي بمنح "ياغي" الجنسية السعودية ضمن مجموعة من الأشخاص أصحاب خبرات وكفاءات نادرة تمنحهم السعودية جنسيتها في إطار رؤية 2030، وعبر ياغي الذي يحمل الجنسية الأمريكية أيضًا عن سعادته بالجنسية السعودية التي ستمكنه من التعاون أكثر بصفته مواطنًا، كما أصبح عضوًا في مجلس إدارة هيئة تنمية البحث والتطوير والابتكار.
مسيرة البروفيسور السعودي تصاعدت أكثر خلال العامين الماضيين ففي 2024 تم تصنيفه ضمن قائمة أكثر العلماء تأثيرًا في العالم بفضل أكثر من 300 بحث علمي استشهد بهم أكثر من 200 ألف شخص، كما حصد جائزة "نوابغ العرب" في فئة العلوم الطبيعية تقديرًا لإسهامته الاستثنائية، قبل أن يحصل على جائزة نوبل والتي هي تتويج أكبر لمسيرة عصامية بدأت من الصفر حتى وصلت إلى أرفع الجوائز الدولية، وتجسيد لمعانِ كثيرة أبرزها رؤية السعودية الرشيدة في اختيار كوادرها، وإثبات رصانة جوائزها العلمية التي تمنحها لمن يستحق، وعلى المستوى الإنساني تعد الجائزة دافع قوي لـ"ياغي" الذي يؤمن بأن العقل البشري يمكن أن يبدع في بيئة غير مثالية وبأن للعلم قوة متساوية أي أنه لا يفرق بين إنسان وآخر.
دور السعودية في دعم أبنائها كشفه "ياغي" في مقطع فيديو بعد فوزه بالجائزة، إذ أوضح من خلاله أن السعودية صاحبة الأثر الأكبر في مسيرته العلمية ودعم ولي العهد الأمير محمد بن سلمان المستمر له مكنه في النهاية من الفوز بـ"نوبل" موجهًا الشكر أيضًا إلى مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية "كاكست" التي دعمته خلال السنوات الماضية خاتمًا حديثه بقول" فوزي هو تتويج لكل العلماء السعوديين والعرب".