مكالمة قصيرة تلقاها رجل الأعمال الفرنسي ريتشارد أتياس من ياسر الرميان محافظ صندوق الاستثمارات العامة السعودي في 2015 قرر على إثرها أن يودع ثلوج سويسرا بعد أن قضى فيها سنوات طويلة كأحد المنظمين الكِبار لمؤتمر دافوس العالمي والانتقال إلى وسط الصحراء حيث أبراج الرياض الشاهقة التي استعدت لاحتضان مؤتمرات تعزز الاستثمار الأجنبي في المملكة، وبعد دراسات ولقاءات مع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الذي وصفه ريتشارد بقوله: "يفكر أسرع 10 مرات من الآخرين"، خرجت مبادرة مستقبل الاستثمار إلى النور لتكون منصة ليس هدفها فقط دعم الاقتصاد السعودي وجذب الاستثمارات الأجنبية، بل ملتقى لقادة العالم يناقشون من خلاله أبرز القضايا ويرسمون خريطة الاقتصاد العالمي.
تنطلق النسخة التاسعة من مؤتمر مستقبل الاستثمار في 27 أكتوبر الجاري تحت عنوان "إطلاق العنان لمفتاح الازدهار" وتعد هي الأضخم من حيث عدد الحضور، فبحسب ريتشارد أتياس الرئيس التنفيذي لمؤسسة مبادرة مستقبل الاستثمار ستضم النسخة الجديدة أكثر من 8 آلاف مشارك و600 متحدث و250 جلسة حوارية إلى جانب ورش عمل وجلسات نقاش بين رؤساء تنفيذيين من مختلف دول العالم، كما ستشهد مشاركة أكثر من 20 رئيس دولة لأول مرة من بينهم رؤساء بلغاريا وكوبا والعراق وكوسوفو، إضافة إلى نائب الرئيس الصيني.
اقتصاديًا من المتوقع أن تشهد النسخة التاسعة توقيع اتفاقيات تفوق قيمتها 60 مليار دولار وتتصدر ملفات الذكاء الاصطناعي اهتمامات المستثمرين، خاصة مع مشاركة كبرى الشركات العالمية مثل "جوجل" و"مايكروسوفت" و"إنفيديا" كما ستحظى الشركات الناشئة خاصة العاملة في التكنولوجيا والتقنيات الناشئة باهتمام كبار المستثمرين نظرًا لدورهم في تشكيل مستقبل الاقتصاد العالمي مع تسليط الضوء على التوترات الجيوسياسية وتفاوت الموارد على سلاسل الإمداد بحسب تصريحات "أتياس".
تشكل الأرقام السابقة ذروة ما وصلت إليه مبادرة مستقبل الاستثمار التي بدأت نسختها الأولى في 24 أكتوبر 2017 بمشاركة نحو 2500 شخصية رائدة في مجال الأعمال من أكثر من 60 دولة حول العالم، وشهدت تلك النسخة إطلاق أكبر المشروعات السعودية وهو مشروع مدينة نيوم كنموذج لمدن المستقبل كما تميزت بحضور الذكاء الاصطناعي مبكرًا على طاولة المناقشات وأسفرت الانطلاقة الأولى عن توقيع شراكات ومذكرات تفاهم مع جهات عالمية مثل صندوق رؤية سوفت ومجموعة فيرجن وغيرها.
لم تختلف النسخة الثانية عام 2018 عن سابقتها لكنها شهدت مشاركة عدد من قادة الدول أبرزهم نائب رئيس الإمارات وملك الأردن ورئيسي الجابون والسنغال، إضافة إلى شخصيات اقتصادية وقد وصل عدد المتحدثين في تلك النسخة 120 متحدثا، يمثلون أكثر من 140 مؤسسة مختلفة، وبعد النسخة الثالثة التي حققت أيضًا نجاح ملحوظ تحولت المبادرة إلى مؤسسة غير ربحية بمرسوم ملكي في 2019 ما أتاح لها عقد شراكات إستراتيجية مع كبرى المؤسسات المالية في العالم مثل بنك إتش إس بي سي وبنك الكويت الوطني ومجموعة السعودية وغيرها.
منذ تلك اللحظة لم تعد مبادرة مستقبل الاستثمار مجرد مؤتمر اقتصادي فقط، بل منظمة متكاملة فاعلة في عالم المال والأعمال، وذلك من خلال تنظيمها اجتماعا عالميا تحت اسم "قمة مبادرة الاستثمار" ويتم تنظيمه بشكل دوري في الخارج، مثلما حدث في الصين والبرازيل، وآخر قمة عقدت في ميامي بالولايات المتحدة الأمريكية مطلع العام الجاري تحت عنوان "قمة الأولوية العالمية".
النماذج المشابهة لمبادرة مستقبل الاستثمار عالميًا قليلة جدًا ولعل أبرزها وأقدمها المنتدى الاقتصادي العالمي المعروف بـ"دافوس" نظرًا لانعقاده في مدينة دافوس السويسرية، وقد نظم لأول مرة 1971 واستمر خلال عقود هو البوصلة الاقتصادية الأولى بوصفه الملتقى لرواد المال والأعمال وقادة الدول، لكن خلال السنوات الماضية فقد كثيرا من بريقه لدرجة دفعت ماهر نقولا مدير المعهد الاقتصادي الأوروبي الآسيوي إلى قول: "أجندة دافوس منفصلة عن واقع العالم على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية"، كما أكد في تصريحاته لوكالة "الشرق بلومبرغ" تضاؤل أهمية المنتدى، فنسبة الرؤساء التنفيذيين الذين حضروا نسخة 2025 أقل بكثير مما كانت عليه في السنوات الماضية.
في الوقت ذاته تعاظم دور مبادرة مستقبل الاستثمار بحسب الأرقام، إذ تمكنت خلال 8 سنوات من عقد صفقات قدرت قيمتها بـ200 مليار دولار، بل إن النتائج تفوق التوقعات مثلما حدث في النسخة الماضية حين كان المفترض أن يتم عقد صفقات بـ25 مليار دولار فإذا بالحصيلة تصل إلى 60 مليار دولار بحسب الأرقام الرسمية لمؤتمر 2024، كما أن شراكات مؤسسة المبادرة وصل عددها إلى 45 شريكا إستراتيجيا مع أكبر المؤسسات الاقتصادية والمالية في مختلف أنحاء العالم ما جعل كثيرين يعتبرون أن مبادرة مستقبل الاستثمار هي "دافوس العصر" في دلالة على أنها تحتل الصدارة حاليًا.
الرؤية الأشمل هدف حققته مبادرة مستقبل الاستثمار التي باتت الآن تملك منحا دراسية وبرامج تمويلية ودراسات تقوم بها وقراءة لكل ما يخص عالم المال والأعمال لإظهار الفرص المتاحة والقطاعات الناشئة، وهذا ما ضاعف من دورها، إذ بات مكان واحد قادر على جمع أكبر العقول الاقتصادية وعقد أضخم الصفقات ومناقشة أعقد القضايا ورسم خريطة الاقتصاد العالمي، وهو هدف أعلنه منذ البداية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان حين قال: "يجب أن تكون مؤسسة مستقبل الاستثمار هي المكان الذي يأتي إليه المستثمرون لفهم أين يضعون أموالهم من حيث الجغرافيا وفي أي قطاع، هذه هي القيمة التي نقدمها".
