مع تواصل الأزمات السياسية في فرنسا وتراجع الوضع الاقتصادي بشكل مستمر، يتساءل كثير من الخبراء اليوم: هل تواجه فرنسا خطر التحول إلى رجل أوروبا المريض؟
لا يتوقع أن يتجاوز نمو الناتج المحلي الإجمالي الفرنسي هذا العام 0.6%، فيما يرجح أن يرتفع معدل البطالة إلى 7.7% بنهاية عام 2025. وعلى صعيد الدين العام تتزايد المخاطر، إذ تقدر تكلفة خدمة الدين الوطني حاليا بنحو 67 مليار يورو، أي أكثر من موازنات جميع الوزارات الفرنسية باستثناء التعليم والدفاع. وبحلول عام 2030 يرجح أن تتجاوز مدفوعات خدمة الدين حاجز 100 مليار يورو سنويا. وأخيرا خفضت وكالة فيتش للتصنيف الائتماني تصنيف الدين الفرنسي، ما يرفع تكلفة الاقتراض الحكومي ويعكس تزايد الشكوك حول استقرار البلاد وقدرتها على الوفاء بالتزاماتها.
ترى الدكتورة باتسي كلير، أستاذة الاقتصاد الأوروبي، أن لجوء فرنسا إلى صندوق النقد الدولي للحصول على قرض، أو طلب تدخل البنك المركزي الأوروبي، لم يعد مستبعدا. وتقول للاقتصادية "إن الاستقالة المفاجئة لرئيس الوزراء الفرنسي، وهو ثالث رئيس وزراء خلال أقل من عام، ترجح أن فرنسا على أبواب أزمة مالية وشيكة. ومشكلة المديونية الفرنسية تتفاقم، وقد بلغ إجمالي الدين العام الشهر الماضي 3.4 تريليون يورو، أي نحو 114% من الناتج المحلي الإجمالي. وقبل نهاية هذا العقد ستصبح مدفوعات الفائدة أكبر بنود الموازنة الفرنسية".
تشير البيانات الرسمية إلى أن تضخم الإنفاق الحكومي لسنوات، بالتوازي مع تراجع عائدات الضرائب، أدى إلى تفاقم عجز الموازنة ليبلغ نحو 198 مليار دولار، بما يعادل 5.8% من الناتج المحلي الإجمالي. ويعد هذا العجز الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية، كما أنه يتجاوز بكثير نسبة 3% التي يقرها الاتحاد الأوروبي كحد أقصى لعجز الميزانية.
ومع ذلك يرى بعض الخبراء أن أزمة الديون ليست سوى جزء من أزمة اقتصادية شاملة. فعدم تعافي إنفاق المستهلكين، واستمرار معدلات الادخار عند مستويات مرتفعة بما يعكس ضعف ثقة المواطن الفرنسي بالاقتصاد وآفاقه المستقبلية، إلى جانب صعوبة تحفيز الاستثمارات والعجز المزمن في الميزان التجاري، كلها عوامل أصابت محركات الاقتصاد الفرنسي بالعطب.
ويعلق أستاذ الاقتصاد الدولي بارنز بروس للاقتصادية قائلا "لا يزال الرهان الفرنسي على أن البنية التحتية وصلابة المؤسسات وكفاءة النظام التعليمي يمكن أن تساعد البلاد على الخروج من مأزقها الحالي، غير أن هذا يصطدم بعدم رغبة مجتمعية في تبني إصلاحات جذرية مكلفة ومؤلمة على المدى القصير والمتوسط، وإن كانت ضرورية لإنعاش الاقتصاد على المدى الطويل.
ويضيف إس. دي. هيرلي، الخبير السابق في صندوق النقد الدولي، للاقتصادية أن "فرنسا حتى لو سعت لكبح جماح إنفاقها العام، فإن آفاق النمو محدودة، والاتجاهات الاقتصادية العالمية لا تصب في مصلحتها. والسياسات الحمائية في الولايات المتحدة تضغط على الصادرات، وليس لدى فرنسا أداة لخفض العملة الوطنية، كما أن السياسة النقدية محددة بإطار البنك المركزي الأوروبي. هذا يعني أنه حتى إذا تجنبت الانهيار فقد تنزلق إلى دوامة ركود".
في هذه الأجواء المتشائمة يحذر خبراء من أن تداعيات الأزمة الفرنسية قد تتجاوز حدودها الجغرافية. فأزمة الديون السيادية اليونانية قبل أعوام أحدثت اضطرابات واسعة في الأسواق العالمية، ولا شك أن أزمة مماثلة في اقتصاد بحجم وأهمية فرنسا قد تفضي إلى اضطرابات أكبر أثرا.
مع ذلك يرى ديساي ستيل، الاستشاري السابق في بنك إنجلترا، بارقة أمل في نهاية النفق الفرنسي "انهيار فرنسا الاقتصادي يعني عمليا نهاية اليورو، وهو ما يمنح البنك المركزي الأوروبي دافعا قويا للتدخل. غير أن حجم التمويل المطلوب لإنقاذ الاقتصاد الفرنسي قد يدفع صندوق النقد والبنك المركزي الأوروبي إلى فرض شروط صارمة على باريس. ورغم مرارة هذا العلاج قد لا يكون أمام الفرنسيين إلا تقبله لتفادي السيناريو الأسوأ". يقول للاقتصادية.
بهذا المشهد تقف فرنسا أمام مفترق طرق حاسم. إما مواجهة مكلفة بإصلاحات هيكلية شجاعة تعيد ضبط المسار المالي وتحفز الاستثمار والإنتاجية، وإما استمرار التردد بما يحول البلاد تدريجيا إلى مركز عدوى لعدم الاستقرار الاقتصادي في القارة الأوروبية. الطريق صعب لكنه لا يزال مفتوحا.