لم يكن الاتفاق الذي وقعه الرئيس الأمريكي دونالد ترمب مع ماليزيا بشأن المعادن النادرة الأول من نوعه، في وقت يوحي النمط الذي يسير به إلى أنه لن يكون الأخير.
خلال جولته الآسيوية، والتي تشمل اليابان وكوريا الجنوبية قبل لقاء نظيره الصيني شي جين بينغ الخميس، وقع ترمب اتفاقاً بشأن المعادن النادرة مع ماليزيا، في وقت أكد الممثل التجاري الأمريكي جيمسون غرير أن الاتفاق يضمن أن يكون الاستثمار والتجارة في هذا القطاع "حراً قدر الإمكان وقادراً على الصمود".
قبل ساعات من الاتفاق، شارك ترمب في التوقيع على اتفاق بين تايلندا وكمبوديا يركز على خفض التصعيد بينهما. ولكن ترمب أعلن عن اتفاق آخر مرتبط بالمعادن النادرة مع تايلندا.
جولة الاتفاقات الأخيرة سبقها قبل أيام توقيع اتفاق ضخم مع أستراليا بقيمة 8.5 مليار دولار، يتضمن قطاع المعادن الحيوية والنادرة. وعلّق ترمب قائلاً: "بعد عام من الآن، سيكون لدينا كم هائل من المعادن الحيوية وعناصر الأرض النادرة لدرجة أننا لن نعرف ما سنفعل بها".
لم يقتصر التعاون على جيران الصين، إذ دخلت هذه المعادن في قلب الصراع الروسي الأوكراني. ففي أبريل الماضي، وقعت أوكرانيا اتفاقاً يمنح الشركات الأمريكية أولوية الوصول إلى أكثر من مئة موقع من رواسب المعادن النادرة في البلاد. روسيا من جهتها عرضت توقيع اتفاق مع ترمب بشأن المعادن النادرة، ولكنه لم يبصر النور، على الأقل حتى الآن.
امتدت رغبة ترمب بالمعادن النادرة إلى باكستان أيضاً، إذ وقعت إسلام أباد في أوائل سبتمبر اتفاقاً بقيمة 500 مليون دولار مع شركة "يو إس ستراتيجيك ميتالز" الأمريكية، يمنحها حق استخراج معادن حيوية ونادرة. وخلال الشهر الجاري، سلمت البلاد أول شحنة من هذه المعادن إلى الولايات المتحدة.
كما توسطت واشنطن لإنهاء الصراع بين الكونغو الديمقراطية ورواندا بعد أشهر من الوساطة، ما يضمن لواشنطن إمكانية الاستفادة من معادن كينشاسا النادرة. ولكن لا تزال بنود هذا الاتفاق غير واضحة المعالم، في وقت لا يزال اتفاق السلام هشاً.
لا تقتصر المحاولات الأمريكية للحصول على هذه المعادن على الاتفاقات بين الدول، إذ باتت الشركات الأمريكية فاعلة في هذا المجال، بدعم حكومي.
أفادت "بلومبرغ" في سبتمبر الماضي، بأن واشنطن تجري محادثات لإنشاء صندوق بقيمة 5 مليارات دولار للاستثمار في التعدين.
وفي مثال آخر، استثمر البنتاغون 400 مليون دولار في حصص ملكية في شركة "إم بي ماتيريالز" (MP Materials)، الرائدة في إنتاج المعادن الأرضية النادرة، في خطوة وصفت بأنها "تحوّل كبير" في السياسات الصناعية الأمريكية.
تشكل المعادن النادرة اليوم عنصراً أساسياً في أهم الصناعات، حيث أصبحت حجر الزاوية في إنتاج التقنيات المتقدمة التي يعتمد عليها العالم بشكل متزايد، من الهواتف الذكية والسيارات الكهربائية إلى أنظمة الطاقة المتجددة والصناعات الدفاعية.
ظهر تأثير هذه المعادن بوضوح بعد قيود التصدير المشددة التي فرضتها الصين بداية الشهر الجاري.
أثار هذا الموقف غضب الرئيس الأمريكي الذي اعتبره "عدائياً وغير مسبوق"، وهدد على الفور بفرض رسوم إضافية بنسبة 100%، ووضع ضوابط تصدير على "أي وجميع البرمجيات المهمة" كما هدد بإلغاء اللقاء مع نظيره الصيني شي جين بينغ، في تصعيد أعاد شبح الحرب التجارية إلى الأذهان بعدما كانت هدأت.
القيود الصينية لم تؤثر فقط على الولايات المتحدة، إذ أربكت حكومات العالم بأسره، ما دفع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى دعوة دول الاتحاد الأوروبي لاستخدام "أداة مكافحة الإكراه" وهي أقوى أداة تجارية لدى التكتل، إذا لم يتم التوصل إلى حل بشأن قيود الصين.
موقف الصين هيمن أيضاً على اجتماعات صندوق النقد والبنك الدوليين في واشنطن، حيث ألمح وزير الخزانة الأمريكي سكوت بيسنت إلى إمكانية تأسيس تحالف جديد في مواجهة الصين، قائلاً: "نتواصل مع حلفائنا الأوروبيين، ومع أستراليا وكندا والهند، والديمقراطيات الآسيوية"، بهدف إعداد ردّ شامل.
أدركت الصين ضخامة الموقف، إذ سارعت إلى احتواء التوتر. ففي 22 أكتوبر الجاري، عقدت بكين اجتماعاً واسعاً بشكل غير معتاد مع شركات أجنبية في محاولة لطمأنتها بأن ضوابطها الجديدة على صادرات المعادن النادرة لا تستهدف تقييد حركة التجارة المعتادة، مؤكدة أنها "ستعمل على ضمان استقرار سلاسل التوريد العالمية".
من المرجح أن تتوصل واشنطن مع بكين إلى تهدئة بالملف التجاري، وخصوصاً في موضوع المعادن النادرة، ولكن الإدارة الأمريكية الحالية تبدو مصممة على الذهاب نحو تحقيق الاستقلالية عن الصين في هذا الملف
يوحي نمط التحرك الأمريكي في هذا المجال بأن اتفاق ماليزيا قد لا يكون الأخير، خصوصاً أن هناك العديد من الدول التي تملك احتياطيات ضخمة من المعادن النادرة مثل كندا والبرازيل.
وفي مقال رأي على "بلومبرغ"، اعتبر الكاتب المتخصص في أميركا اللاتينية خوان سبينيتو بأن البرازيل قد تتمكن من التفوق على الصين في سباق المعادن النادرة، خصوصاً أنها "قوة تعدين عالمية وقريبة جغرافياً من الولايات المتحدة، وتحتضن أكبر احتياطي من المعادن النادرة في العالم بعد الصين".
سبينيتو اعتبر أن هذا الملف قد يشكل مدخلاً للرئيس لويس إيناسيو لولا دا سيلفا لحل الخلافات التجارية مع ترمب.
ظهرت مؤشرات على عودة بعض الدفء إلى العلاقات، إذ قال لولا اليوم الثلاثاء إنه اجتمع مع ترمب في قمة "آسيان"، وأكد أنه سيتم التوصل لاتفاق نهائي بشأن الملفات التجارية "خلال أيام".
هذه الاتفاقات على كثرتها، لا يمكن أن تشكل بديلاً عن الصين في هذا المجال على الأقل على المدى القريب، خصوصاً أنها تهيمن على أكثر من ثلث تعدين المعادن النادرة، ونحو 85% من قدرة المعالجة، وفق "بلومبرغ".
تدرك إدارة ترمب هذه المعضلة، لذا كان ملف المعادن النادرة حاضراً بقوة في المفاوضات التي جرت بين كبار المفاوضين التجاريين من الجانبين في ماليزيا، تمهيداً للقمة المرتقبة بين ترمب وشي.
وبعد يومين من المحادثات، قال مسؤول صيني إن الجانبين توصلا إلى توافق أولي بشأن مسائل عدة تشمل ضوابط التصدير، في حين قال وزير الخزانة الأمريكي سكوت بيسنت في مقابلة مع شبكة "سي بي إس نيوز" إن تهديد ترمب الأخير "بات عملياً غير مطروح"، متوقعاً أن تقوم بكين بتأجيل القيود الواسعة على المعادن النادرة، "لمدة عام أثناء إعادة النظر فيها".
في المحصلة، من المرجح أن يتوصل الطرفان إلى تهدئة بالملف التجاري، وخصوصاً في موضوع المعادن النادرة، ولكن الإدارة الأمريكية الحالية تبدو مصممة على الذهاب نحو تحقيق الاستقلالية عن الصين في هذا الملف.
هذا الموقف بدا واضحاً في كلام بيسنت خلال مشاركته في منتدى الاستثمار السعودي الأمريكي الذي عقد في مايو الماضي، إذ قال إن الولايات المتحدة لا تريد فصل اقتصادها عن الصين، بل تعمل على "الفصل في قطاعات استراتيجية". ويبدو أن المعادن النادرة من أبرز القطاعات الاستراتيجية بنظر إدارة ترمب.
