الاقتصاد العالمي 2016

Author

العالم في 2016 .. تحديات عظيمة ونمو مخيب للآمال

|
لم تكن هجمات نوفمبر/تشرين الثاني الإرهابية في باريس وتدفق اللاجئين إلى أوروبا سوى العرضين الأحدثين للتوترات السياسية والاقتصادية الحادة التي اجتاحت شمال إفريقيا والشرق الأوسط. وهذه الأحداث ليست معزولة بأي حال من الأحوال. فالصراعات تحتدم في أماكن أخرى أيضا، وهناك ما يقرب من 60 مليون نازح في مختلف أنحاء العالم. وعلاوة على ذلك، يقترب عام 2015 من استحقاق وصف العام الأشد حرارة في التاريخ المسجل على الإطلاق، مع تسبب ظاهرة النينيو القوية في توليد كوارث مرتبطة بالطقس عبر المحيط الهادئ. ويساهم تطبيع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة أخيرا، جنبا إلى جنب مع التباطؤ في الصين في إحداث حالة من عدم اليقين والتقلبات الاقتصادية الحادة في مختلف أنحاء العالم. كما تباطأ نمو التجارة العالمية بشكل حاد، مع هبوط أسعار السلع الأساسية الذي يفرض مشكلة عصيبة على الاقتصادات التي تعتمد على الموارد. يرجع أحد الأسباب وراء تباطؤ الاقتصاد العالمي الشديد إلى حقيقة مفادها أن الاستقرار المالي يظل غير مؤكد حتى الآن، برغم مرور سبع سنوات على انهيار ليمان براذرز. ويظل ضعف القطاع المالي باقيا في العديد من البلدان ــ وتتنامى المخاطر المالية في الأسواق الناشئة. وسوف يكون النمو العالمي في عام 2016 مخيبا للآمال ومتفاوتا بفضل اجتماع كل هذه الظروف. كما تمكن الضعف من توقعات نمو الاقتصاد العالمي في الأمد المتوسط، مع تسبب الإنتاجية المنخفضة، والشيخوخة السكانية، وتركة الأزمة المالية العالمية في عرقلة النمو المحتمل. ويستمر ارتفاع الديون، وانخفاض الاستثمار، وضعف البنوك في إثقال كاهل بعض الاقتصادات المتقدمة، وخاصة في أوروبا، وتظل العديد من الاقتصادات الناشئة تواجه ضرورة إجراء التعديلات بعد طفرات الائتمان والاستثمار في مرحلة ما بعد الأزمة. ويتأثر هذا المشهد بشكل كبير بفعل بعض التحولات الاقتصادية الكبرى التي تتسبب في خلق تأثيرات غير مباشرة وتأثيرات مرتدة عالمية، وخاصة انتقال الصين إلى نموذج جديد للنمو وتطبيع السياسة النقدية في الولايات المتحدة. والواقع أن هذين التحولين ضروريان وصحيان، ومفيدان للولايات المتحدة والعالم، ويتمثل التحدي في إدارتهما بأكبر قدر ممكن من الكفاءة والسلاسة. وقد أطلقت الصين إصلاحات بنيوية عميقة لرفع الدخول ومستويات المعيشة، في ظل مساعيها الرامية إلى فرض “وضع معتاد جديد” يقوم على نمو أبطأ وأكثر أمانا واستدامة ويعتمد بشكل أكبر على الخدمات والاستهلاك وبشكل أقل على الاستثمار الكثيف الاستخدام للسلع الأساسية وعلى الصناعات التحويلية. بيد أن صناع السياسات في الصين يواجهون ضرورة إيجاد توازن دقيق: إذ يتعين عليهم تنفيذ هذه الإصلاحات الصعبة مع الحفاظ على الطلب والاستقرار المالي في الوقت نفسه. وقد شهدنا أحد هذه التأثيرات غير المباشرة في الصيف الماضي، عندما تسببت مخاوف المستثمرين بشأن وتيرة تباطؤ الاقتصاد الصيني في فرض المزيد من الضغوط على أسواق السلع الأساسية وإشعال شرارة انخفاضات كبيرة في قيمة العملات في عدد من البلدان المصدرة للسلع الأساسية التي تعتمد على الطلب الصيني. ومع تراجع الاستثمار في الصين ـ التي تستهلك حاليا 60 في المائة من خام الحديد على مستوى العالم على سبيل المثال ـ فستتضاءل شهية الصين للسلع الأساسية لا محالة. وسيساهم هذا في قدوم فترة ربما تكون مطولة من انخفاض أسعار السلع الأساسية، وسيكون لزاما على صناع السياسات ـ وخاصة في الدول الكبرى المصدرة للسلع الأساسية مثل أستراليا والبرازيل ـ أن يتعاملوا مع هذه الفترة بحذر. ويتعلق التحول الرئيسي الثاني بتصميم بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي على رفع أسعار الفائدة. فبرغم أن بنك الاحتياطي الفيدرالي أشار بوضوح إلى أن أسعار الفائدة من المتوقع أن تظل منخفضة لبعض الوقت، فإن هذا التحول يعكس ظروفا اقتصادية أفضل في الولايات المتحدة، وهو مفيد أيضا للاقتصاد العالمي. لقد أسهمت أسعار الفائدة المنخفضة في تشجيع المستثمرين على البحث عن العائد، وهو ما ساعد بدوره على دعم خوض المجازفات المالية وزيادة تقييمات الأسهم، والسندات السيادية، وائتمان الشركات. وعلى هذا فإن بنك الاحتياطي الفيدرالي أيضا يواجه ضرورة إيجاد توازن دقيق: تطبيع أسعار الفائدة مع الحد من مخاطر تعطل الأسواق المالية في نفس الوقت. ولا يخلو هذا أيضا من تأثيرات غير مباشرة محتملة. فحتى قبل رفع أسعار الفائدة من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي في ديسمبر/كانون الأول، ساهم احتمال تشديد السياسة النقدية في الولايات المتحدة بالفعل في ارتفاع تكاليف التمويل بالنسبة لبعض المقترضين، بما في ذلك الاقتصادات الناشئة والنامية. ويشكل هذا جزءا من التعديل الضروري للأوضاع المالية العالمية. بيد أن هذه العملية قد تتعقد بفعل التغيرات البنيوية في أسواق الدخل الثابت، والتي أصبحت أقل سيولة وأكثر هشاشة ـ وهذه وصفة أكيدة لإحداث ردود أفعال مفرطة وتعطيل عمل الأسواق. الواقع أن البلدان خارج الاقتصادات المتقدمة عموما أصبحت أفضل استعدادا من أي وقت مضى للتعامل مع أسعار الفائدة الأعلى. بيد أنني أشعر رغم هذا بالقلق إزاء قدرتها على استيعاب الصدمات. فقد استجابت أكثر الاقتصادات الناشئة والنامية للأزمة المالية العالمية باتخاذ تدابير مالية ونقدية جريئة في مواجهة التقلبات الدورية. وباستخدام هذه السياسات المخففة للصدمات، تمكنت من قيادة الاقتصاد العالمي في وقت الشدة. وعلى مدار السنوات الخمس الماضي، كانت تمثل ما يقرب من 80 في المائة من النمو العالمي. بيد أن هذه المبادرات كانت مصحوبة عادة بزيادة في استخدام الروافع المالية (الاستدانة) في القطاع الخاص، وتكبدت العديد من البلدان المزيد من الديون ــ وكانت نسبة كبيرة من هذه الديون مقومة بالدولار الأمريكي. وعلى هذا فإن عوامل مثل ارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية وزيادة قوة الدولار ربما تكشف عن حالات عدم التوافق بين العملات، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى عجز الشركات عن سداد ديونها ــ وانتشار العدوى الشرسة إلى البنوك والجهات ذات السيادة. غير أننا نعلم رغم هذا أن المخاطر السلبية الناجمة عن هذه التحولات من الممكن أن تدار من خلال دعم الطلب، والحفاظ على الاستقرار المالي، وتنفيذ الإصلاحات البنيوية. وستظل أغلب الاقتصادات المتقدمة، باستثناء الولايات المتحدة وربما المملكة المتحدة، في احتياج إلى سياسات نقدية تيسيرية. ولكن ينبغي لكل الاقتصادات المتقدمة أن تضع في اعتبارها بشكل كامل مخاطر التأثيرات غير المباشرة في عملية اتخاذ القرار وضمان وضوح تصريحاتها في هذا الصدد. وبوسع منطقة اليورو من ناحية أخرى أن تعمل على ترقية آفاقها من خلال المعالجة الكاملة للقروض المتعثرة التي تبلغ قيمتها نحو 900 مليار يورو ـ أحد موروثات الأزمة المالية الرئيسية التي لم تحل. وهذا من شأنه أن يمكن البنوك من زيادة المعروض من الائتمان للشركات والأسر، وبالتالي تعزيز فاعلية المواءمة النقدية، وتحسين آفاق النمو، وتعزيز ثقة السوق. ويتعين على الاقتصادات الناشئة أن تعكف على تحسين رصد تعرض الشركات الكبرى للعملات الأجنبية. كما ينبغي لها أيضا أن تضمن الاستقرار المالي من خلال استخدام أدوات التحوط الكلي لتعزيز مرونة البنوك وقدرتها على الصمود في مواجهة تراكم استدانة الشركات والديون الخارجية. وعلى المستوى العالمي، ينشأ احتياج ملح إلى استكمال تنفيذ أجندة الإصلاح التنظيمي ــ مع التركيز بشكل خاص على تحسين الشفافية والرقابة على المؤسسات غير المصرفية أو بنوك الظل. كما تنتظرنا مهمة كبرى أخرى: تحسين الإطار الذي لا يزال منقوصا لحل المؤسسات المالية النشطة عالميا والتي تشكل أهمية جهازية للنظام بالكامل. على الجانب المالي، ينبغي للبلدان أن تستخدم سياسات تتسم بأكبر قدر ممكن من المرونة والقدرة على دعم النمو. والواقع أن صندوق النقد الدولي يواصل التأكيد على توصياته بأن تسعى الاقتصادات المتقدمة التي لا يزال لديها حيز كاف للتحفيز المالي للاستعانة به لتعزيز الاستثمار العام، وخاصة في البنية الأساسية العالية الجودة. وتظل الخطط المالية ذات المصداقية في الأمد المتوسط تشكل أولوية مهمة، وخاصة في الولايات المتحدة واليابان. كما ينبغي للدول المصدرة للسلع الأساسية والتي لديها مجال للمناورة في السياسة المالية أن تستغل هذا المجال لتسهيل عملية التكيف مع انخفاض الأسعار. وينبغي لغيرها من الدول أن تعتمد على عمليات إعادة التوازن المالي الداعمة للنمو ــ على سبيل المثال، من خلال تنفيذ إصلاحات الأنظمة الضريبية وأسعار الطاقة وإعادة ترتيب أولويات الإنفاق، بما في ذلك لحماية الفئات الأكثر ضعفا. لقد استخدمت الدول المصدرة للسلع الأساسية مثل شيلي وكولومبيا والنرويج وبوتسوانا طفرة السلع الأساسية لتعزيز هياكلها المالية في مواجهة الصدمات. وقد أعطاها هذا قدرا أعظم من السيطرة على وتيرة التكيف المالي الضروري، ومكنها بالتالي من الحفاظ على النمو. ويحمل هذا درسا مفيدا لدول أخرى. وأخيرا، يتعين على جميع الدول أن تعمل على رفع مستوى هياكلها الاقتصادية من خلال إصلاح أسواق العمل والإنتاج، والبنية الأساسية، وأنظمة التعليم والرعاية الصحية، والسياسات التجارية. وسيحتاج التنفيذ بكل تأكيد إلى قدر كبير من المهارة والذكاء في صنع السياسات، خاصة في هذه المرحلة التي تتسم بانخفاض النمو وارتفاع مستويات عدم اليقين. ونظرا للطابع الجمعي الذي تتسم به العديد من القضايا ذات الصلة ـ مثل تغير المناخ، والتجارة، والهجرة، وشبكة الأمان المالي العالمية ـ فإن زيادة التعاون الدولي تشكل ضرورة أساسية أكثر إلحاحا وأهمية من أي وقت مضى. لقد شعرت بسعادة غامرة عندما رأيت هذه الروح تتجلى في تبني أهداف التنمية المستدامة في سبتمبر/أيلول، ومرة أخرى في مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ في باريس في ديسمبر/كانون الأول. وعلى نحو مماثل، لا ينبغي لنا أن ننظر إلى أزمة اللاجئين في الشرق الأوسط وأوروبا باعتبارها مجرد قضية إنسانية؛ فهي في واقع الأمر قضية اقتصادية تؤثر في الجميع. ونحن جميعا ملزمون بمد يد العون. صحيح أن التحديات التي تواجه العالم في عام 2016 عظيمة. ولكن بالاستعانة بالسياسات الصحيحة، والزعامة، والتعاون، نستطيع أن نديرها لصالحنا جميعا. المدير الإداري لصندوق النقد الدولي. حقوق النشر خاصةبصحيفة «الاقتصادية»
إنشرها
Author

تصدير النموذج الصيني

|
مع بداية عام 2016 تجري مسابقة تاريخية حول نماذج التنمية المتنافسة ــ أو استراتيجيات تعزيز النمو الاقتصادي ــ بين الصين من جهة والولايات المتحدة والبلدان الغربية من الجهة الأخرى. ورغم أن هذه المسابقة كانت محتجبة إلى حد كبير عن مراصد الرأي العام، فسوف تحدد نتيجتها مصير قسم كبير من أوراسيا لعقود مقبلة. يدرك أغلب الغربيين أن النمو تباطأ بشكل كبير في الصين، من أكثر من 10 في المائة سنويا في العقود الأخيرة إلى أقل من 7 في المائة اليوم (بل وربما أقل). ولم يجلس قادة الصين مكتوفي الأيدي في الاستجابة لهذا التطور، فسعوا إلى التعجيل بالتحول من نموذج النمو الموجه للتصدير والضار بالبيئة الذي يعتمد على الصناعات التحويلية الثقيلة إلى نموذج قائم على الاستهلاك المحلي والخدمات. بيد أن خطط الصين لا تخلو أيضا من بعد خارجي كبير. ففي عام 2013، أعلن الرئيس شي جين بينج مبادرة ضخمة أسماها “حزام واحد، وطريق واحد”، وهي المبادرة التي من شأنها أن تحول الجوهر الاقتصادي لأوراسيا. يتألف عنصر الحزام الواحد من شبكة من السكك الحديدية تمتد من غرب الصين عبر آسيا الوسطى ومن ثم إلى أوروبا والشرق الأوسط وجنوب آسيا. أما عنصر الطريق الواحد الذي يحمل مسمى غريبا فيتألف من موانئ ومرافق الهدف منها زيادة حركة مرور البضائع المنقولة بحرا من شرق آسيا وربط هذه الدول بالحزام الواحد، الأمر الذي يوفر لها طريقا لنقل بضائعها برا، بدلا من عبور محيطين، كما يحدث حاليا. وقد صمم البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية الذي تقوده الصين، والذي رفضت الولايات المتحدة الانضمام إليه في وقت سابق من عام 2015، لتمويل مبادرة حزام واحد وطريق واحد جزئيا. ولكن احتياجات المشروع الاستثمارية سوف تجعل موارد المؤسسة الجديدة المقترحة تبدو ضئيلة للغاية بالمقارنة. الواقع أن مبادرة حزام واحد وطريق واحد تمثل انحرافا لافتا للنظر في السياسة الصينية. فللمرة الأولى، تسعى الصين إلى تصدير نموذج التنمية إلى بلدان أخرى. كانت الشركات الصينية بطبيعة الحال بالغة النشاط في مختلف بلدان أمريكا اللاتينية ومنطقة جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا في العقد الماضي، فاستثمرت في السلع الأساسية والصناعات الاستخراجية والبنية الأساسية اللازمة بغرض نقلها إلى الصين. ولكن مبادرة الحزام الواحد والطريق الواحد مختلفة؛ إذ يتلخص الغرض منها في تطوير القدرة الصناعية والطلب الاستهلاكي في بلدان خارج الصين. وبدلا من استخراج المواد الخام، تسعى الصين إلى تحويل صناعتها الثقيلة إلى البلدان الأقل نموا، وهو ما من شأنه أن يجعلها أكثر ثراء ويشجع الطلب على المنتجات الصينية. يختلف نموذج التنمية في الصين عن ذلك الشائع حاليا في الغرب. فهو يقوم على الاستثمارات الضخمة التي تقودها الدولة في مشاريع البنية الأساسية ـ الطرق والموانئ والكهرباء والسكك الحديدية والمطارات ـ التي تسهل عملية التنمية الصناعية. ويستنكر خبراء الاقتصاد الأمريكيون هذا المسار الذي يعتمد على البناء ثم انتظار العائد، نظرا لمخاوف تتعلق بالفساد واستغلال المنصب عندما تشارك الدولة بقوة. وعلى النقيض من ذلك، ركزت استراتيجية النمو في الولايات المتحدة وأوروبا في السنوات الأخيرة على الاستثمارات الضخمة في مجالات الصحة العامة، وتمكين المرأة، ودعم المجتمع المدني العالمي، وتدابير مكافحة الفساد. ورغم أن هذه الأهداف الغربية جديرة بالثناء، فلم تتمكن أي دولة من تحقيق الثراء من خلال الاستثمار فيها وحدها. صحيح أن الصحة العامة تشكل شرطا مسبقا مهما لتحقيق النمو المستدام؛ ولكن إذا كانت عيادة ما تفتقر إلى الإمدادات التي يمكنها التعويل عليها من الطاقة الكهربائية والمياه النظيفة، أو كانت الطرق المؤدية إليها رديئة، فلن يستفيد منها الناس كثيرا. وقد حققت استراتيجية الصين القائمة على البنية الأساسية نجاحا لافتا للنظر في الصين ذاتها، وكانت تشكل عنصرا مهما في الاستراتيجيات التي تبنتها بلدان أخرى في شرق آسيا، من اليابان إلى كوريا الجنوبية إلى سنغافورة. ويأتي السؤال الأكبر في ما يتعلق بمستقبل السياسة العالمية واضحا وصريحا: فأي نموذج قد تكون له الغلبة؟ إذا لبت مبادرة حزام واحد وطريق واحد توقعات المخططين الصينيين، فسوف تتحول أوراسيا بأسرها، من إندونيسيا إلى بولندا، في الجيل المقبلة. وسوف يزدهر نموذج الصين خارج الصين، فترتفع الدخول وبالتالي الطلب على المنتجات الصينية التي ستحل محل الأسواق الراكدة في أجزاء أخرى من العالم. وسوف تنتقل الصناعات الملوثة أيضا إلى أجزاء أخرى من العالم. وبدلا من كونها منطقة واقعة على المحيط الخارجي للاقتصاد العالمي، فسوف تصبح آسيا الوسطى في قلبه، ويكتسب نموذج الحكم الاستبدادي في الصين مكانة بارزة، وهو ما يعني ضمنا تأثيرا سلبيا كبيرا على الديمقراطية في مختلف أنحاء العالم. ولكن هناك من الأسباب المهمة ما يحملنا على التساؤل حول إمكانية نجاح مبادرة حزام واحد وطريق واحد. لقد حقق النمو القائم على البنية الأساسية نجاحا ملموسا في الصين حتى الآن لأن الحكومة الصينية كانت قادرة على السيطرة على البيئة السياسية. ولن تكون هذه هي الحال في الخارج، حيث سيتداخل عدم الاستقرار والصراع والفساد مع الخطط الصينية. وبالفعل، وجدت الصين نفسها في مواجهة أصحاب المصلحة الغاضبين، والمشرعين القوميين، والأصدقاء المتقلبين في أماكن مثل الإكوادور وفنزويلا، حيث تنفذ الصين بالفعل استثمارات ضخمة. وقد تعاملت الصين مع المسلمين الساخطين في إقليم شينجيانج من خلال الحرمان والقمع؛ ولن تفلح تكتيكات مماثلة في باكستان أو كازاخستان. بيد أن هذا لا يعني أن الولايات المتحدة وغيرها من الحكومات الغربية ينبغي لها أن ترتكن إلى الشعور بالرضا عن الذات وتنتظر فشل الصين. صحيح أن استراتيجية المشاريع الضخمة في تنمية البنية الأساسية ربما بلغت منتهاها داخل الصين، وقد لا تنجح في بلدان أجنبية، ولكنها لا تزال تشكل أهمية بالغة للنمو العالمي. كانت الولايات المتحدة في خمسينيات وستينيات القرن العشرين مواظبة على بناء السدود الضخمة وشبكات الطرق، إلى أن أصبحت هذه المشاريع خارج النمط السائد. واليوم، لم يعد لدى الولايات المتحدة سوى القليل نسبيا الذي يمكنها تقديمه للبلدان النامية في هذا الصدد. صحيح أن مبادرة “تمكين إفريقيا” التي طرحها الرئيس باراك أوباما فكرة جيدة، ولكنها كانت بطيئة في الإقلاع عن الأرض؛ كما انتهت الجهود لبناء ميناء فورت ليبرتي في هايتي إلى الفشل. ينبغي للولايات المتحدة أن تصبح عضوا مؤسسا في البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية؛ فلا يزال بوسعها أن تنضم وتدفع الصين نحو قدر أعظم من الالتزام بالمعايير الدولية للبيئة والسلامة والعمل. وفي الوقت نفسه، يتعين على الولايات المتحدة والدول الغربية أن تسأل نفسها لماذا أصبح تشييد البنية الأساسية صعبا إلى هذا الحد، ليس فقط في البلدان النامية بل وفي الداخل أيضا. وما لم نفعل هذا فإننا نجازف بالتخلي عن مستقبل أوراسيا وغيرها من الأجزاء المهمة في العالم لمصلحة الصين ونموذجها التنموي. كبير زملاء جامعة ستانفورد، ومدير مركز الديمقراطية والتنمية وسيادة القانون. حقوق النشر خاصةبصحيفة «الاقتصادية»

اخر مقالات الكاتب

    ..
إنشرها
«البنك الدولي» لـ "الاقتصادية":
 قطاع خاص قوي ودعم للفقراء .. نموذجنا الجديد للتنمية في 2016
«البنك الدولي» لـ "الاقتصادية": قطاع خاص قوي ودعم للفقراء .. نموذجنا الجديد للتنمية في 2016

أكد لـ”الاقتصادية” حافظ غانم نائب رئيس البنك الدولي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا، أن السعودية تعد داعما قويا...

«3 رافعات صلبة» لتمويل عجز الموزانات الخليجية في 2016
«3 رافعات صلبة» لتمويل عجز الموزانات الخليجية في 2016

توقع تقرير صادر عن بنك قطر الوطني  تباطؤ النمو في دول مجلس التعاون الخليجي إلى 2.9 في المائة في 2016 من 3.3...

3 % توقعات نمو أرباح المصارف السعودية خلال 2016
3 % توقعات نمو أرباح المصارف السعودية خلال 2016

تتوقع وحدة التقارير الاقتصادية في صحيفة ''الاقتصادية''، نمو أرباح المصارف السعودية خلال عام 2016، أن تتباطأ...

Author

الإصلاح سيطول العقار.. تضاعف للمعروض وتراجع للأسعار

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
سجلت السوق العقارية السعودية بنهاية 2015 أول تراجع لها في إجمالي قيمة صفقاتها خلال عقد زمني مضى 2006ــ2015، لتنخفض بالمقارنة مع إجمالي قيمة صفقاتها خلال عام 2014 بنسبة 22.5 في المائة، مستقرة بنهاية 2015 عند مستوى 348.4 مليار ريال، مقارنة بمستواها الأعلى الذي سجلته السوق العقارية خلال عام 2014 عند 449.7 مليار ريال. كما جاء إجمالي قيمة صفقات السوق العقارية لعام 2015 أدنى من إجمالي قيمة الصفقات لعام 2013 بنسبة 16.9 في المائة، وأدنى كذلك من إجمالي قيمة الصفقات لعام 2012 بنسبة 4.6 في المائة (إجمالي قيمة صفقات السوق لعام 2013 نحو 418.9 مليار ريال، ولعام 2012 نحو 365.2 مليار ريال). تأثرت السوق العقارية تجاه هذا الانخفاض الكبير في قيمة صفقاتها، بالانخفاض القياسي الذي طرأ على صفقات أغلب أنواع العقارات المبيعة خلال العام، جاءت أعلى نسب التراجع المسجلة على كل من قيمة الصفقات العقارية على الأراضي الزراعية بنسبة انخفاض بلغت 60.0 في المائة، تلتها قيمة الصفقات العقارية على الفلل بنسبة انخفاض بلغت 58.1 في المائة، تلاها قيمة الصفقات العقارية على المراكز التجارية بنسبة انخفاض بلغت 38.1 في المائة، تلتها قيمة الصفقات العقارية على العمائر بنسبة انخفاض بلغت 35.0 في المائة، ثم جاءت قيمة الصفقات العقارية على قطع الأراضي بنسبة انخفاض بلغت 21.4 في المائة. #2# وجاء التأثر الأكبر للانخفاض في قيمة صفقات السوق العقارية من الانخفاض الذي طرأ على قيم صفقات كل من الأراضي الزراعية وقطع الأراضي، كون صفقات هذين النوعين من العقارات تشكل النسبة الكبرى من صفقات السوق العقارية، التي وصلت بنهاية عام 2015 إلى نحو 90.0 في المائة من إجمالي قيمة صفقات السوق، في حين ترتفع نسبة مساحات الصفقات على الأراضي إلى إجمالي مساحات صفقات السوق إلى نحو 99.1 في المائة! ويمكن فهم هذا التراجع القياسي في قيم الصفقات على الأراضي بجميع أنواعها الزراعي والتجاري والسكني نتيجة لعدة اعتبارات، لعل من أهمها دخول العديد من الإجراءات والأنظمة على السوق خلال العام الماضي، لعل من أبرزها الإعلان عن إقرار نظام الرسوم على الأراضي البيضاء داخل المدن والمحافظات، إضافة إلى انخفاض حدة المضاربات على الأراضي نتيجة انخفاض مستويات السيولة في الاقتصاد والسوق على وجه الخصوص، نتيجة الانخفاض الحاد الذي شهدته أسعار النفط في الأسواق العالمية، وانعكاسه المباشر والكبير على تدفقات الميزانية العامة للحكومة، ويتوقع اتساع واستمرار تلك الانخفاضات خلال العام المقبل، خاصة بعد البدء الفعلي لتطبيق نظام الرسوم على الأراضي المرتقب تطبيقه مع حلول منتصف عام 2016 بمشيئة الله تعالى. آثار نظام الرسوم على الأراضي البيضاء يظهر من الوهلة الأولى لإعلان الموافقة على نظام الرسوم على الأراضي البيضاء داخل النطاق العمراني للمدن والمحافظات والمراكز، التي ستليها فترة لن تتجاوز العام، سيتخللها إقرار نظامها ولائحتها التنفيذية بعد أقل من ستة أشهر، ثم يبدأ تطبيقه عمليا بعد ما لا يتجاوز ستة أشهر من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية “أم القرى”، تؤكد التطورات المتسارعة التي تمر بها السوق العقارية في الوقت الراهن؛ أن وتيرتها ستأتي أسرع بكثير مما كان متوقعا، وأن جانب عروض بيع الأراضي سيشهد اتساعا كبيرا خلال الفترة المقبلة، وهو الأمر الإيجابي الذي يتوافق تماما مع الهدف الرئيس لإقرار نظام الرسوم على الأراضي البيضاء، الذي تركز على تفكيك دائرة الاحتكار المسيطرة عليها بمساحات شاسعة جدا، مقابل تداول ما لا يتجاوز 10.0 في المائة من مساحاتها بيعا وشراء على مستوى كامل السوق العقارية، وأن تلك الرسوم تمثل في الوقت الراهن أمام التشوهات الجاثمة على السوق، الأداة الأكثر فاعلية لتحرير بقية الأراضي المكتنزة لدى ملاكها دون التفكير من قبلهم في تطويرها أو الانتفاع منها، وهذا بدوره سيقود السوق العقارية إلى تحقيق التوازن المفقود تماما بين قوى العرض والطلب، الذي سيؤدي لاحقا إلى توازن الأسعار المتضخمة في الوقت الراهن، ويعيدها إلى مستويات أكثر عدالة مما هي عليه الآن، تستقر في مستويات أدنى بكثير من مستوياتها الراهنة المتضخمة سعريا، وتعكس فعليا تعادل قوى الشراء بناء على مستوى دخل الأفراد وقدرتهم على الاقتراض من جانب، ومن جانب آخر وفرة العروض من الأراضي المطورة الصالحة للبناء والتشييد والاستخدام السكني. وفقا لما تقدم؛ يتوقع مع اقتراب السوق العقارية شهرا بعد شهر من الموعد الرسمي لبدء تطبيق الرسوم على الأراضي، أن تتزايد بصورة أكبر العروض العقارية من قطع الأراضي السكنية بالدرجة الأولى، وبقية أنواع المنتجات العقارية الأخرى من بيوت وشقق وعمائر وفلل سكنية، وتزامن تلك الزيادة المتسارعة في العروض العقارية مع تراجع متوسطات أسعارها السوقية. ولمعرفة وتقدير نسب تراجع الأسعار السوقية، يظل مهما جدا التعرف على أن كميات ومساحات الأراضي خارج منصة التداول بيعا وشراء، تفوق في حجمها (تسعة أضعاف) حجم المتداول منها في الوقت الراهن! وهي الحقيقة الرقمية المثبتة رسميا والمستخلصة من بيانات كل من وزارة العدل وأمانات المدن الرئيسة.إن مما لا شك فيه تحت هذه الحقائق الرسمية حول تفاصيل السوق العقارية، يمكن القول إن مجرد تضاعف حجم المعروض من الأراضي السكنية مرة أو مرتين خلال عام مقبل، من شأنه أن ينعكس على مستويات الأسعار المتضخمة بالانخفاض بما لا يقل عن 50 في المائة على أقل تقدير، وقد تتجاوز نسب الانخفاض في الأسعار تلك النسبة حسب المواقع التي شهدت مضاربات سعرية حادة على الأراضي فيها، وفي ظل ثبات بقية العوامل الأخرى كتحديد نسبة الحد الأقصى للتمويل العقاري عند ما لا يتجاوز 70 في المائة إجمالي القيمة السوقية للأصل العقاري، إضافة إلى بدء المصارف المحلية في رفع سعر فائدة الإقراض فيما بينها، الذي يقف في الوقت الراهن عند أعلى مستوى له منذ عام 2009، وقيام الميزانية العامة بتمويل أي عجز فيها عن طريق إصدار سندات التنمية (دون الحاجة إلى السحب من الاحتياطي العام، وهو القرار الاقتصادي الأنسب في الوقت الراهن)، وأخيرا ارتفاع وعي الأفراد تجاه كل تلك التطورات، واقتناعهم بأنها ستؤدي فعليا إلى مزيد من انخفاض الأسعار، تؤكد خلاصة ما تقدم ذكره هنا إلى أن صخرة الأسعار المتضخمة في الوقت الراهن، قد بدأت تتصدع كما أظهرته البيانات الفعلية لوزارة العدل، وأنها في طريقها إلى مزيد من التصدع والتفكك والتراجع السعري، الذي يتوافق تماما مع أهداف صانع القرار بإقرار نظام الرسوم على الأراضي البيضاء، وهو ما يجب على الأفراد الباحثين عن شراء وتملك مساكنهم الاستفادة القصوى منه بمشيئة الله تعالى. الأثر الإيجابي لأنظمة التمويل العقاري كما تبين التطورات المذكورة أعلاه؛ أن الآثار التي ترتبت على بدء تطبيق أنظمة التمويل العقاري، جاءت إيجابية في مجملها، ولعبت دورا بارزا ومهما في الحد من نشاطات المضاربة، والتلاعب بالأسعار السوقية، بل إنها كما أثبتته البيانات الرسمية الصادرة عن وزارة العدل، قد سجلت انخفاضات ملموسة، رغم أنها لا تقارن إطلاقا بنسب الارتفاع الحادة التي شهدتها أسعار الأصول العقارية خلال العقد الماضي، التي راوحت مضاعفاتها بين خمسة أضعاف وأكثر من 20 ضعفا حسب اختلاف مواقعها. وبالنظر إلى تفاصيل قيم الصفقات العقارية السكنية، وأعداد العقارات المبيعة منها حسب مختلف أنواعها، فقد أظهرت تطورات القيمة الإجمالية لصفقات الأراضي الزراعية خلال الفترة قبل بدء تطبيق أنظمة التمويل، مقارنة بالفترة التي تلت التطبيق، أنها انخفضت بنسبة 65.6 في المائة، وانخفضت أعداد مبيعاتها للفترة نفسها بنسبة 49.7 في المائة. أما على مستوى قطع الأراضي السكنية، فقد سجلت القيمة الإجمالية لصفقاتها خلال للفترة نفسها انخفاضها بنسبة 26.5 في المائة، فيما جاءت نسبة انخفاض أعداد مبيعاتها أدنى من 7.5 في المائة. وبالنسبة لإجمالي قيمة الصفقات على الفلل السكنية، فقد سجلت انخفاضا قياسيا خلال الفترة نفسها وصلت نسبته إلى 57.4 في المائة، وانخفضت بدورها أعداد مبيعاتها بنسبة 55.3 في المائة. أما بالنسبة لإجمالي قيمة الصفقات على العمائر السكنية، فقد سجلت أيضا انخفاضا قياسيا خلال الفترة نفسها وصلت نسبته إلى 53.5 في المائة، وتبعتها أعداد مبيعاتها في الانخفاض بنسبة 53.9 في المائة. فيما لم يتراجع إجمالي قيمة الصفقات على الشقق السكنية بأكثر من 0.7 في المائة، وارتفعت بالتزامن مع الفترة ذاتها أعداد مبيعاتها بنسبة طفيفة لم تتجاوز 1.5 في المائة. أخيرا؛ جاءت تطورات صفقات ومبيعات البيوت السكنية مخالفة للتطورات السالفة الذكر، حيث ارتفع إجمالي قيمة الصفقات عليها خلال الفترة نفسها بنسبة قياسية بلغت 61.4 في المائة، وارتفعت أيضا أعداد مبيعاتها بنسبة 56.1 في المائة. بناء على ما تقدم؛ يجب على مؤسسة النقد العربي السعودي، أن تتمسك بكل ما اتخذته من إجراءات تحوطية بالغة الأهمية بشأن أنظمة التمويل الأخيرة (في مقدمتها نظام التمويل العقاري)، وأن الإجراءات الاحترازية التي رافقتها، أتت ثمرة لسنوات طويلة من دراسة تجارب الدول الأخرى في هذا المجال، من أهمها أزمة الرهن العقاري التي تفجرت في وجه الولايات المتحدة والاقتصاد العالمي نهاية 2008، مكنتها تلك الدراسات المتأنية من تحديد أهم المخاطر والصعوبات التي واجهتها الدول الأخرى، ووفرت لها فرص التعرف على سبل تجنب التورط في مثل هذه المخاطر والاستعداد المبكر لها، وهي جوانب تمت مراعاتها طوال فترة إعداد مشروعات اللوائح التنفيذية للأنظمة، كان من أهم ثمارها، تحديد سقف لإعادة تمويل أنشطة الشركات، واشتراط الحصول على ضمانات ملائمة قبل منح التمويل، واشتراط عدم تجاوز مبلغ التمويل العقاري نسبة 70 في المائة من قيمة الأصل العقاري، واشتراط التأكد من قدرة طالب التمويل على سداد التمويل قبل منحه. لهذا؛ يجب على مؤسسة النقد العربي السعودي استمرارها في عدم التهاون، تجاه التطبيق الصارم لتلك الأنظمة التمويلية، وتجاه كل ما يكفل حماية وسلامة كل من الاقتصاد الوطني وقطاعه المالي والمجتمع لأي سبب كان، خاصة بعد أن ثبت لديها بما لا يدع مجالا للشك حجم المخاطر المدمرة لأي اقتصاد حول العالم، ولقطاعاته المصرفية والتمويلية إن حدث أي اختراق لتلك الأنظمة والإجراءات الاحترازية ذات الأهمية القصوى! إن رضوخ مؤسسة النقد لأي من المطالبات الضيقة الأفق والمصالح للجنة العقارية ومن تمثلهم من تجار الأراضي، وتحديدا فيما يختص برفع نسبة الحد الأقصى للتمويل العقاري من 70 في المائة من حجم التمويل إلى أعلى من 90 في المائة، أؤكد أنه يعني تخليها التام عن حماية القطاع المالي السعودي! وأنها اتخذت قرارا بالموافقة الصريحة والرسمية على تعريض وكشف القطاع المالي لدينا أمام المخاطر الوخيمة لتراجع وانكماش أسعار الأراضي والعقارات، وأمام التشوهات الكبيرة المسيطرة تماما على السوق العقارية، تلك المخاطر التي تسعى الدولة جاهدة إلى إصلاحها بالدرجة الأولى، وإلى إخماد جذوة أسعارها المتضخمة جدا. مستقبل السوق العقارية خلال 2016 تخضع السوق العقارية المحلية لعديد من العوامل والمتغيرات القوية، ويتوقع أن تزداد تأثيراتها خلال العام الجديد بصورة أكبر مما أفضت إليه خلال العام المنصرم قريبا، فتحت ضغوط بدء تطبيق نظام الرسوم على الأراضي البيضاء داخل المدن والمحافظات، واستمرار تأثير ضغوط انخفاض أسعار النفط، وما سيترتب عليه من تقييد للإنفاق الحكومي بصورة أكثر ترشيدا، وفي ظل الإصلاحات الكبرى التي يتم تنفيذها على مستوى الاقتصاد الكلي، وعلى السوق العقارية على وجه الخصوص، وأمام إحجام أغلب أفراد المجتمع عن الشراء بالمستويات السعرية المتضخمة للأصول العقارية، على الرغم مما شهدته من انخفاضات حتى نهاية العام الماضي (تراجع متوسط أسعار الأراضي الزراعية بنسبة 40.2 في المائة، وتراجع متوسط أسعار قطع الأراضي السكنية بنسبة 22.4 في المائة، وتراجع متوسط أسعار الوحدات السكنية بنسبة 14.4 في المائة)، إلا أنها لا تزال متضخمة في حقيقتها، قياسا على موجة الارتفاع الكبيرة التي شهدتها خلال عقد زمني مضى 2006ــ2014، ومن جانب آخر يطغى شعورا كبيرا عاما لدى عموم أفراد المجتمع أن الأسعار وفقا للمتغيرات المشار إليها أعلاه؛ تتجه إلى مزيد من الانخفاض خلال العام الجاري وما سيليه من أعوام، الذي بدوره يحفز أغلب الأفراد على تأجيل وقت الشراء للاستفادة من تلك الموجة الهابطة لأسعار الأصول العقارية خلال الفترة المقبلة. كما يزيد من الضغوط الكبيرة على مستويات الأسعار المتضخمة للأصول العقارية، وتحديدا الوحدات السكنية زيادة الفائض من الوحدات السكنية الشاغرة، المتوقع أن يرتفع من نحو 970 ألف وحدة سكنية شاغرة بنهاية 2015 (14.9 في المائة من إجمالي الوحدات السكنية)، إلى أعلى من نحو 1.3 مليون وحدة سكنية شاغرة بنهاية العام الجاري الجديد (18.6 في المائة من إجمالي الوحدات السكنية). كل تلك العوامل والمتغيرات تصب في اتجاه إحداث المزيد من الضغوط على فقاعة الأسعار المتضخمة جدا، وقد نشهد مع أية تراجعات في أسعار النفط أو تصاعد مستويات تأثير المتغيرات المشار إليها أعلاه في اتجاه أكثر سلبية بالنسبة لها، كل هذا لا شك أنه سيخلف وراءه آثارا أكبر على مستويات الأسعار، وهو الأمر الذي أصبح معلوما بصورة أكبر لدى عموم الأفراد، نتيجة ارتفاع مستوى الوعي والمتابعة بتلك المعطيات الاقتصادية والمالية. عضو جمعية الاقتصاد السعودية
إنشرها
Author

التكنولوجيا الرقمية .. المنافس الاقتصادية

|
كانت التغييرات التكنولوجية تشكل دوما تحديا ماثلا أمام الشركات. ولكنها، كما أكد لنا مرة أخرى عام 2015، لم تحدث من قبل قط لا بالسرعة ولا بالنطاق الواسع الذي تحدث به اليوم. ومع انتشار الابتكار عمليا في كل القطاعات، من الصناعة الثقيلة إلى الخدمات، يتبدل المشهد التنافسي، لتقف في صدارته الشركات الأكثر تطورا ــ بدلا من الشركات الأكبر حجما أو الأعرق وجودا في السوق. وأصبح العزل خطرا حقيقيا يهدد الكيانات المهيمنة. وهبط متوسط استمرار الشركات في العمل وفقا لمؤشر ستاندرد آند بورز 500 من 90 سنة عام 1935 إلى أقل من 18 سنة اليوم. واللاعبون الخطيرون الجدد ــ مثل “أوبر” التي قلبت صناعة التاكسي رأسا على عقب ــ هم منافسون أشداء غالبا ما ينتزعون حصصا من السوق بتحويل المزيد من الفائض إلى المستهلكين. وما هذا سوى جزء من نزعة أوسع نطاقا لاحتدام المنافسة التي يمكنها في غضون عقد واحد من الزمن، وفقا لبحث أجراه أخيرا معهد ماكينزي العالمي، تخفيض مجمع الربح العالمي بعد خصم الضريبة من قرابة 10 في المائة من إجمالي الناتج المحلي العالمي اليوم إلى المستوى الذي كان عليه في ثمانينيات القرن المنصرم أي قرابة 7.9 في المائة. تؤثر التكنولوجيا في المنافسة إلى حد بعيد بسبب قوة الأسس الرقمية ــ أي المعدات المادية والبرامج والتطبيقات ــ وبسبب تأثير الشبكة. إذ تقلص الأسس الرقمية الحديثة التكاليف الحدية (أي تكلفة إنتاج وحدات إضافية من السلع أو الخدمات) إلى قرابة الصفر. فإذا أضاف المستخدم، لنقل مثلا، تطبيق “خرائط جوجل” إلى هاتفه فلن يكلفه هذا شيئا يذكر، لأن هذه الخدمة قائمة على البيانات التي يوفرها النظام العالمي لتحديد المواقع والذي يتم بالفعل تخزينه مسبقا في تليفون المستخدم. ويسمح هذا لـ”جوجل” بتوسيع نطاق عملها بمعدل سرعة قد لا يمكن تصديقه، ومن ثم يستفيد من هذا (ومن العامل المريح المتمثل في امتلاكه منفردا منصة تكنولوجية) للانتقال إلى قطاعات مجاورة ــ مثل الموسيقي (في جوجل بلاي) وتسديد الفواتير (في جوجل واليت) ومعالجة النصوص (في جوجل لتحرير المستندات). وعلى هذا النحو قد تسارع شركات التكنولوجيا بتحدي الكيانات المهيمنة في صناعات يبدو ظاهريا أنها غير ذات صلة. وبالطبع، ليست شركات التكنولوجيا هي الطرف الوحيد الذي يقدم الابتكارات. إذ تقوم حفنة من الشركات الرائدة في كل صناعة عمليا بنشر التكنولوجيا الرقمية بطرق مستمرة التطور ــ وتحصد في المقابل مكاسب ضخمة. فاستخدام أجهزة الاستشعار لمراقبة المواشي، على سبيل المثال، يؤثر تأثيرا بعيد المدى في صناعة الغذاء. ولكن، تظل القطاعات الأكثر تطورا من حيث التكنولوجيا الرقمية تحقق التقدم الأكبر. ومن المؤكد أن هامش الربح، طوال العقدين المنصرمين، في هذه القطاعات الغارقة في التكنولوجيا قد نما مرتين أو ثلاث مرات، في المتوسط، أسرع من باقي قطاعات الاقتصاد. وحتى بين القطاعات الأكثر تطورا هناك فجوة عميقة بين الشركات ذات الأداء الأعلى وبقية الشركات. وعلى سبيل المثال، فعروض البيع بالتجزئة للمصارف متعددة الجنسيات التي تستخدم تكنولوجيا رقمية متقدمة فاقت إلى حد بعيد عروض اتحادات الائتمان المحلية. وبينما تواصل التكنولوجيا تغيير أنماط وعمليات البزنس، بدلت أيضا الطريقة التي يعمل بها الموظفون. وتوصل بحث أجراه معهد ماكينزي أخيرا إلى أن التكنولوجيات التي أثبتت جدواها بالفعل يمكن أن تؤدي إلى الاستعاضة عن الإنسان بالآلات فيما قد تصل نسبته إلى 45 في المائة من الأعمال التي تدفع الشركات للأفراد مقابل أدائها، وفي الولايات المتحدة وحدها يعادل هذا قرابة تريليوني دولار أمريكي من الأجور السنوية. وبالنسبة للشركات، تمتد المكاسب المحتملة لهذا التحول إلى أبعد حد من مجرد توفير التكاليف، إذ سيتوفر للعاملين الوقت لتنفيذ مهام تنطوي على قيمة أعلى بما في ذلك التفكير النقدي والإبداع. وسيكون بوسع المستشارين الماليين قضاء وقت أقل في تحليل البيانات المالية وتكريس وقت أطول لوضع حلول تلبي احتياجات العملاء. أو سيكون بوسع مهندسي الديكور الداخلي تحويل اهتمامهم من مجرد أخذ المقاسات إلى ابتكار أفكار في مجال التصميم وإلى الاجتماع بالعملاء أو التزود بالمعدات اللازمة. وتسمح التكنولوجيا أيضا للشركات بإعادة التفكير في الحكمة التقليدية حول التخطيط التنظيمي والحوكمة. وتوفر تكنولوجيات تبادل المعلومات قدرا أكبر من الشفافية، ما يجعل المؤسسات أكثر كفاءة، وفي حالات عديدة، أقل بيروقراطية. وعلى سبيل المثال، تبنى المديرون التنفيذيون في شركة أبل وشركة إنديتكس (شركة ملابس متعددة الجنسيات) وزابوس (موقع كبير لتجارة التجزئة على إلإنترنت) نهجا في الإدارة يسمح بقيام مدير واحد بالإشراف على عمل عدد كبير من العاملين، عدد يتجاوز جدا النموذج التقليدي: “مدير لكل أربعة عاملين أو ثمانية عمال”. وأعادت شركة هاير الصينية لإنتاج الأجهزة المنزلية تنظيم قوة العمل بها التي بلغ عددها 80 ألف عامل، فقسمتهم إلى ألفي وحدة مستقلة كل منها مسؤولة عن إدارة أرباحها وخسائرها، لترتفع بعد هذه الخطوة القيمة السوقية للشركة ارتفاعا كبيرا بلغ عام 2014 ثلاثة أضعاف ما كانت عليه عام 2011. هذا فضلا عن أن التحول إلى التكنولوجيا الرقمية يسمح للشركات بالعمل “أسس” تكنولوجية وليس كـ “هياكل” عمل تقليدية، ويسمح بزيادة الاستفادة من الموارد من خارج هذه الشركات. ولقد استعانت شركة أليستات للتأمين بخدمات كاجال للتمويل الجماعي لدعوة مبرمجي الكومبيوتر للتوصل إلى حل جديد بشأن مشكلة الأضرار التي تصيب السيارات من جراء الحوادث، وكان النموذج الفائز أكثر دقة بنسبة 271 في المائة من النموذج الحالي. تماما مثلما حدث مع شركة دي جي آي (DJI) الصينية التي أصبحت أكبر شركة في العالم لإنتاج الطائرات دون طيار، حين ركزت على تطوير التكنولوجيا الأساسية لمنتجاتها وتخلت عن نماذج المجموعات المجانية من المطورين الهواة للبرامج وأطلقتها مجانا على الإنترنت ليتمكن آخرون من بناء تطبيقات باستخدامها. الأمر الذي يعني أن طائرات شركة دي جي آي دون طيار كان قد تم تجهيزها بميزات جذابة في وقت سابق جدا على الوقت الذي قام فيه بذلك منافسوها الذين اعتمدوا في تطوير التطبيقات على جهودهم الذاتية الداخلية. ويمكن رؤية ابتكارات تكنولوجية مماثلة في عمليات التفكير وفي نماذج البزنس في مختلف قطاعات الاقتصاد، وتنعكس هذه الابتكارات في التغييرات في عمليات التخطيط بالشركات، التي بدأ بعضها في وضع خطط متميزة للبزنس لمدة شهرين ولمدة عشرين عاما، وفي إعادة توزيع مواردها بقوة أكبر، وفي استخدام تقنيات تحليل جديدة لتحديد الموهوبين وجذبهم وتطويرهم والاحتفاظ بهم. ويمكن الابتكار التكنولوجي الشركات بالفعل من تعزيز قدراتها، وبالتالي قوتها التنافسية. ولهذا السبب يجب أن تكون مهمة تحويل المكونات الأساسية للبزنس إلى رقمية وإعادة التفكير في التخطيط التنظيمي وعمليات الحوكمة على رأس أولويات المديرين التنفيذيين عام 2016. والسبيل الوحيد لتجنب التخلف عن الآخرين يتمثل في اقتناص هذه “الموجة الرقمية” سريعة الحركة سريعة النمو. حقوق النشر خاصةبصحيفة «الاقتصادية»

اخر مقالات الكاتب

    ..
إنشرها
Author

السياسة المالية للمملكة .. متزنة في زمن العجز والفائض

|
تستخدم حكومات العالم السياسات المالية والنقدية للتأثير في الاقتصاد المحلي وتوجيهه لتعظيم الرفاهية الاجتماعية. وتتولى السلطات النقدية مسؤوليات إدارة السياسة النقدية، بينما تتحمل الحكومة المركزية مسؤولية إدارة السياسة المالية. ويحد ربط معدلات صرف الريال السعودي بالدولار الأمريكي من قدرة السلطات النقدية في التأثير على النشاط الاقتصادي، ولهذا تكتسب السياسة المالية دورا قويا وبارزا في التأثير في التطورات الاقتصادية في المملكة. كما تقوم السياسة المالية ببعض مسؤوليات السياسة النقدية من خلال صناديق التنمية المختلفة التي توفر قروضا مدعومة لبعض القطاعات الاقتصادية. التطورات المالية التاريخية تسارع نمو إنفاق الدولة خلال الـ46 عاما الماضية، كما هو موضح في جدول النفقات المرفق. وقد ارتفعت المصروفات الفعلية من نحو ستة مليارات في عام 1969، إلى 1140 مليار ريال في عام 2014. وقد شهدت بداية السبعينيات أعلى درجات تسارع نمو الإنفاق الحكومي، ثم تباطأ النمو في الثمانينيات من القرن الماضي، وبعد ذلك استمرت التقلبات في حجم الإنفاق حتى بداية الألفية. وعادت المصروفات العامة للنمو بقوة مع بداية الألفية الحالية وحتى 2014 الذي شهد أكبر إنفاق فعلي في تاريخ المملكة، وأدى التراجع الحاد في الإيرادات النفطية إلى ترشيد الإنفاق الفعلي في عام 2015، ولكنه ظل قريبا من مستويات تريليوني ريال. وتمثل النفقات الجارية نحو 70 في المائة من إجمالي النفقات العامة خلال الـ46 عاما الماضية، بينما يحصل الإنفاق الرأسمالي على الباقي. وترتفع نسبة الإنفاق الرأسمالي عند ارتفاع الإيرادات النفطية حتى أنها تجاوزت نصف إجمالي الإنفاق في بعض السنوات. في المقابل، نما إجمالي الإيرادات من نحو ستة مليارات ريال في عام 1969 إلى نحو 1.25 تريليون في عام 2012، وقد تراجعت الإيرادات في الأعوام التالية ـــ بسبب تراجع أسعار النفط ـــ حتى فقدت في 2015 نصف مستواها القياسي في 2012. وتمثل الإيرادات النفطية نحو 85 في المائة من إجمالي الإيرادات خلال الـ46 عاما الماضية، بينما تمثل الإيرادات غير النفطية الباقي. وترتفع مساهمة الإيرادات النفطية في إجمالي الإيرادات عند ارتفاع أسعار النفط وتتراجع مع تراجعها. وتتشكل الإيرادات غير النفطية من الرسوم على الخدمات الحكومية المختلفة، والضرائب الجمركية وعلى دخل الشركات الأجنبية وقطاع الاتصالات، والزكاة، وعوائد استثمار الاحتياطيات المالية. وتظهر بيانات الإنفاق والإيرادات العامة أن سياسة الإنفاق الحكومي تتلخص في رفع المصروفات عند زيادة الإيرادات النفطية وزيادة الاحتياطات المالية للدولة، ثم استخدام تلك الاحتياطات لسد العجز في ميزانيات الفترات التي تتراجع فيها الإيرادات النفطية. وقد تأرجح الميزان أو الحساب المالي بين الفائض والعجز خلال الـ46 عاما الماضية، ولكنه حقق بشكل إجمالي فائضا كبيرا خلال الفترة تجاوز 1.3 تريليون ريال، حسب بيانات مؤسسة النقد العربي السعودي عن المالية العامة. وقد بلغ الفائض المالي أعلى مستوياته كنسبة من الناتج المحلي في عام 1973 عندما تجاوز 43في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. بينما بلغ أعلى قيمة له في عام 2008م عندما تجاوز 580 بليون ريال. أما العجز المالي فقد بلغ أعلى نسبة من الناتج المحلي في عام 1987 عندما وصل إلى نحو ربع الناتج المحلي الإجمالي، أما من ناحية القيمة فقد وصل إلى أعلى مستوياته العام الماضي. وقد لجأت الدولة إلى الاقتراض المحلي بالريال السعودي بعد تراجع أسعار النفط واستنفاد معظم الاحتياطات المالية العامة للدولة، وذلك في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي. وألغى تجنب الدولة للاقتراض بالعملات الأجنبية مخاطر تقلبات العملة والضغوط الأجنبية المصاحبة لذلك. وتصاعد الدين المحلي حتى وصل إلى نحو قيمة الناتج المحلي في بداية الألفية، ثم تراجع مستواه بعد تزايد الإيرادات النفطية حتى انخفض إلى نحو 1.6في المائة من الناتج المحلي عند نهاية 2014م. وعاد الدين المحلي للارتفاع بعض الشيء في العام الماضي. ولا يزال الدين المحلي منخفضا بالمعايير العالمية، وهناك مجال كبير للاقتراض من السوق المحلية دون منافسة القطاع الخاص على الائتمان. وتحاول السياسة المالية قدر المستطاع تجنب منافسة القطاع الخاص على الائتمان عند نمو الدين، وذلك لتوفير قدر كاف من السيولة لاحتياجات القطاع الخاص التمويلية. أهداف السياسة المالية تستخدم الدول السياسة المالية لتحقيق عديد من الأهداف، حيث يجري استخدام الإنفاق والضرائب والإيرادات والدين المحلي من أجل تحقيق أهداف متعددة. ومن أبرز أهداف السياسة المالية: 1 - توفير الموارد اللازمة للأمن القومي والاستقرار السياسي تستخدم السياسة المالية لتوفير الموارد المالية اللازمة لحماية البلاد والعباد من الأخطار الخارجية والداخلية. ويحتل الأمن القومي المرتبة الأولى في أوليات الصرف المالي، كما تستخدم السياسة المالية لدعم جهود الاستقرار السياسي الداخلي ومحاربة الجريمة ودعم جهود ومؤسسات العدالة. ورغم أهمية الأمن القومي والاستقرار السياسي، إلا أنه لا ينبغي المبالغة في الإنفاق على هذه الأهداف فوق الحاجة الضرورية الملحة. 2 - التنمية والاستقرار الاقتصادي تلعب السياسة المالية في المملكة الدور الرئيس في تعظيم منافع استخدام الموارد الخاصة والعامة وتوجيهها نحو التنمية. وتحاول السياسة المالية تشجيع الاستثمارات الخاصة والعامة وزيادة مستويات الادخار القومي من خلال زيادة استثمارات الدولة وتبني سياسات تشجيع الاستثمار في رؤوس الأموال البشرية والمادية في القطاعات الخاصة. وتستهدف السياسة المالية من خلال تخصيص جزء كبير من مواردها للاستثمارات في المرافق العامة والبنية الأساسية والخدمات العامة كالتعليم والرعاية الصحية خفض التوجهات الاستهلاكية الناتجة عن زيادة الدخل ورفع معدلات تكوين رؤوس الأموال. وتسعى السياسة المالية إلى تحفيز النمو الاقتصادي والتوظيف الكامل للعمالة وتجنب زيادة معدلات التضخم، كما تركز السياسة المالية على دفع مسيرة التنمية، ورفع مستويات الدخل، وتعزيز معدلات النمو الاقتصادي من خلال توجيه الموارد الخاصة والعامة وزيادة الاستثمارات في رؤوس الأموال البشرية أو المادية. وتحاول الدولة توفير موارد كافية لنفقات الخدمات الأساسية وعلى رأسها الخدمات التعليمية والصحية لرفع إنتاجية العمالة ورفع رفاهية المجتمع. حيث يقود تحسن المهارات التعليمية إلى رفع إنتاجية العمالة وتحسين أجورها وقدراتها على التعامل مع التقنيات الحديثة وتعظيم استفادتها منها. كما يقود تحسين الظروف الصحية للمجتمع إلى رفع معدلات أعمار أفراده وزيادة إنتاجيتهم. تركز السياسة المالية على القطاعات الأعلى مردودا لرفاهية المجتمع، والتي من أبرزها توجيه الاستثمارات العامة إلى البنية الأساسية مثل المواصلات البرية والجوية والبحرية. وكذلك توفير الخدمات الأساسية واللازمة من أجل التنمية كالمنافع العامة من ماء وكهرباء واتصالات. وتشجع السياسة المالية الاستثمار في القطاعات الإنتاجية والأساسية المهمة، كما تحفز النموفي القطاعات الصناعية والزراعية والخدمية والسكنية من خلال إنشاء شبكة من الصناديق التي تخدم تلك القطاعات وتوفر التمويل والتوجيه للمستثمرين في تلك القطاعات. وتم تطوير عديد من المرافق لتشجيع الاستثمار في تلك القطاعات، ومن أبرز هذه المنشآت المدن الصناعية والمدن الاقتصادية التي يتوقع أن توفر بيئة مناسبة ومحفزة لنمو القطاعات الإنتاجية، ما سيسهم في دعم النمو الاقتصادية وتوفير فرص عمل كثيرة للأجيال القادمة. وتسعى السياسة المالية إلى توفير قدر كبير من الاستقرار الاقتصادي من خلال دعم مسيرة النمو المستدام واستغلال أفضل الفرص المتاحة للنمو للحفاظ على التشغيل الكامل للموارد الاقتصادية وخفض معدلات البطالة لأدنى مستويات ممكن، على أن تكون هذه السياسات غير محفزة للتضخم. وتتأثر المملكة بالأوضاع الاقتصادية العالمية، فعند نمو الاقتصاد العالمي بمعدلات جيدة تتحسن تجارة المملكة الخارجية وترتفع صادراتها وإيراداتها النفطية، وفي هذه الحالة تحاول الاستفادة من هذه الفرص بزيادة الإنفاق على المشاريع التنموية وزيادة احتياطاتها المالية واستثمارها في الأصول الأجنبية السائلة، محاولة في نفس الوقت أن تدر عليها أفضل عوائد ممكنة. وعند تراجع معدلات النمو العالمية وتراجع أسعار النفط تستخدم الأصول الأجنبية للحفاظ على معدلات إنفاق عام محفز للنمو الاقتصادي، ما يدعم اقتصادها المحلي ويدعم أيضا الاقتصاد العالمي من خلال رفع الطلب على السلع والخدمات العالمية. وتتجنب السياسة المالية قدر المستطاع المبالغة في النفقات العامة وضبطها لتجنب الآثار التضخمية الضارة بالاقتصاد الوطني عند وجود طفرات في الإيرادات النفطية. ولهذا يتم تحويل أجزاء كبيرة من الإيرادات الإضافية الناتجة عن زيادة أسعار النفط إلى احتياطات الدولة. وتستثمر هذه الاحتياطات في أصول أجنبية لخفض مستويات السيولة في الاقتصاد المحلي وخفض الضغوط التضخمية، وتوفير مصادر إيرادات مستقبلية في حالة تراجع أسعار النفط. كما تحاول الدولة ضبط الإنفاق الجاري الذي له تأثير أقوى في معدلات التضخم من الإنفاق الرأسمالي. توزيع الدخل يعتبر رفع مستويات الدخل وعدالة توزيع الدخل بين الشرائح السكانية، والمناطق المختلفة، وتجنب سوء توزيعه من أبرز أهداف السياسة المالية. وتكتسب سياسات توفير العدالة في توزيع الدخل أهمية كبيرة للسلام الاجتماعي، ودعم الاستقرار ومسيرة التنمية. إضافة إلى ذلك، ترفع عدالة توزيع الدخل من إنتاجية الشرائح السكانية منخفضة الدخل ما يدعم النمو ويرفع الرفاهية الاجتماعية للمجتمع ككل. وتحاول السياسة المالية في المملكة زيادة مستويات دخول جميع سكان المملكة، وتوفير الخدمات العامة الضرورية وخصوصا في القطاعات التعليمية والصحية لجميع الشرائح السكانية في جميع مناطق المملكة دون تمييز. ويعمل توفير هذه الخدمات على ضمان حصول جميع فئات المجتمع بغض النظر عن دخولهم ومستوياتهم الاجتماعية أو مناطقهم أو أعراقهم أو جنسهم على فرص التعلم والعلاج من الأمراض والرعاية الاجتماعية. وهذا يمكن الفئات السكانية غير القادرة - على توفير هذه الخدمات ذاتيا - من اللحاق بالشرائح السكانية التي تتوفر لديها الإمكانات والموارد الكافية. وقد وفرت السياسة المالية عددا من شبكات الرعاية الاجتماعية ودعما لعديد من السلع والخدمات التي تستهدف الشرائح السكانية الأكثر احتياجا. وتعتبر مخصصات الضمان الاجتماعي التي تستهدف الفقراء من أبرز الأدوات التي توفر حدا أدنى من الدخل للأسر الفقيرة. وتوفر برامج أخرى كحافز أو برامج دعم التوظيف دعما لدخول العاطلين عن العمل وتحسين الأجور المنخفضة. وتشجع مكافآت للطلبة الجامعيين وبرامج ابتعاث الشباب - من جميع الشرائح السكانية - على الاستمرار في التعلم وتحسين أوضاعهم المعيشية المستقبلية. من ناحيةٍ أخرى، يوفر دعم استهلاك الخبز وتوفيره بأسعار منخفضة دعما لجميع السكان وترتفع أهميته لمنخفضي الدخل، كما يتم دعم استهلاك الحدود الدنيا من استهلاك الكهرباء والماء ما يخفض من تكاليف هذه الخدمات على أكثر فئات المجتمع احتياجا. ويوفر خفض أسعار الشعير دعما لمربي الماشية الذين تنخفض دخول فئة كبيرة منهم. ويخدم بنك التسليف والادخار كثيرا من احتياجات الشرائح السكانية منخفضة الدخل، حيث يوفر قروضا معفاة ما يمكن كثيرا من منخفضي الدخل من تحسين دخولهم وأوضاعهم الاجتماعية. تنويع مصادر الدخل والإيرادات تسعى السياسة المالية جاهدة إلى تنويع مصادر الدخل من خلال عدد كبير من السياسات، لعل أهمها توفير الدعم المالي للقطاعات الاقتصادية الأخرى من خلال صناديق التنمية وإنشاء البنية الأساسية وتوفير الخدمات الأساسية اللازمة للسكان كالتعليم والرعاية الصحية والتدريب. ومن أهم وسائل تشجيع نمو القطاعات الأخرى هو خفض الأعباء الضريبية على الإنتاج في القطاعات الأخرى، وتشجيع الاستثمار الأجنبي عن طريق توفير عديد من المزايا الضريبية. كما توفر السياسة المالية دعما مباشرا للقطاعات الأخرى من خلال خفض تكاليف عديد من المدخلات خصوصا مدخلات الطاقة، وكذلك إعفاءات الرسوم الجمركية على مستلزمات الإنتاج وعلى معدات وآلات الإنتاج، ومن خلال المشتريات الحكومية. التحديات المستقبلية تعتبر السياسة المالية هي الأداة الرئيسة للتأثير في الاقتصاد في المملكة. ويرتفع تأثير السياسة المالية بسبب استحواذ الدولة على الموارد النفطية التي تعتبر المصدر الرئيس للاقتصاد الوطني والصادرات. وقد حققت السياسات المالية كثيرا من النجاحات فيما يخص دعم الأمن الوطني والاستقرار السياسي والاجتماعي، كما نجحت في تحقيق نجاحات كثيرة ومتنوعة في مجالات التنمية ورفع دخول الأفراد ومستوى الرفاهية الاجتماعية. ونجحت السياسة المالية مثلا في توفير الموارد من أجل إنشاء بنية أساسية جيدة، وفي تحقيق تقدم كبير في الخدمات التعليمية والصحية وفي دعم النمو في القطاعات الاقتصادية المختلفة. ونتيجة لذلك تحسنت الظروف المعيشية للأغلبية الساحقة من السكان كما انخفضت نسب الأمية وازداد العمر المتوقع للسكان. ولم تحقق السياسة المالية النجاح المتوقع في بعض المجالات كمجالات التنويع الاقتصادي، وتنويع الإيرادات الحكومية والقضاء على البطالة وحل معضلة الإسكان. من جهةٍ أخرى، تواجه السياسة المالية تحديات قوية خلال الفترة الحالية ومن المتوقع استمرارها لبعض الوقت. ويأتي تراجع إيرادات النفط على رأس قائمة هذه التحديات. وجاء تراجع الإيرادات النفطية نتيجة لتراجع أسعار النفط العالمية، ولتزايد استهلاك المملكة المحلي من النفط والغاز الطبيعي المسعرين عند مستويات متدنية. ولتعزيز الإيرادات النفطية بدأت الدولة في رفع الدعم وبشكل تدريجي عن منتجات الطاقة المحلية وذلك لتعزيز إيرادات النفط والغاز المحلية وخفض نمو الطلب على هذه المنتجات محليا. وتعتمد فاعلية السياسة المالية على الإيرادات النفطية بدرجة كبيرة، ولهذا فإن تراجعها المتوقع خلال الأعوام القليلة المقبلة يمثل تحديا قويا يجبر الدولة على خفض مستويات ونمو الإنفاق، وفي الوقت نفسه زيادة الإيرادات غير النفطية وزيادة الاقتراض المحلي والسحب من احتياطات الدولة. وتتطلب هذه السياسات الحذر الشديد لتجنب آثارها الجانبية السلبية على رفاهية المجتمع والنمو الاقتصادي المستدام. متخصص في الدراسات الاقتصادية
إنشرها
Author

«أرامكو».. صناعة تاريخ اقتصادي جديد

|
كاتب اقتصادي [email protected]
أيا كان القرار الذي ستتخذه المملكة حيال طرح جزء من شركة “أرامكو” للاكتتاب، وأيا كان شكل هذا الاكتتاب جزئيا أو كليا.. من المصب أو من المنبع.. فمجرد أن أطلق الحديث عن هذه المسألة، دخل العالم أجمع مباشرة في حالة من الترقب لمثل هذه الخطوة التاريخية الكبرى. والحق، أنها ستكون تاريخية وكبرى، لأنه لم يسبق مثيل لها، لأن “أرامكو” تمثل ما تمثله وتملك ما تملكه، وتؤثر ما تؤثر، في نطاق اختصاصها وحراكها المحلي وتبعاته الدولية ككل. الجميع ينتظر دون استثناء، لاسيما أولئك الذين يراقبون الأسواق العالمية، والكل ينظر أساسا إلى “أرامكو” كعملاق غير متكرر، بمعنى كيانها لا يشبه كيانا آخر سواء في قطاع الطاقة، أو في نطاق حجمه الهائل. إنها “أرامكو” التي ترسم منذ عقود الخطوط الرئيسة للخريطة النفطية العالمية. ولأن “أرامكو” ليست فقط مؤسسة أو شركة كبرى عادية تستهدف الربح والخسارة والنمو، بل هي مؤسسة لها كل المزايا السابقة، إلى جانب دورها في رسم سياسات سلعة تبقى محورية على الساحة العالمية، بصرف النظر عن أي تحولات أو متغيرات في أسعارها. فطاقة الوقود الأحفوري باقية لعقود طويلة مقبلة، رغم التحول الناشط على صعيد تدعيم مسيرة الطاقة البديلة، يضاف إلى ذلك، أن “أرامكو” نفسها شركة هائلة ولكنها مرنة، تستطيع أن تتكيف مع ما هو مطروح حالياً على الساحة’، وما قد يطرح لاحقا. أي أنها تحاكي المستقبل في كل الأوقات، تلك التي تتسم بالأزمات أو الانفراجات، كما أنها مؤسسة مفتوحة على أي شيء يخدم قطاع الطاقة من خلال تحقيق أكبر قدر من الفوائد لها وللقطاع. إنها أكبر من مؤسسة. ولعل التوصيف الأمثل لها ليس أقل من كيان. “أرامكو” الكيان الاستراتيجي الدائم، تستطيع ببساطة أن تحتل المركز الأول في قائمة كل الشركات المدرجة حول العالم، من حيث قيمتها، وما تمثله من أهمية على الساحة الدولية. فإذا كانت شركة “أبل” الأعلى قيمة على الإطلاق (بحدود 530 مليار دولار)، فإن التقييم المبدئي لـ “أرامكو” ليس أقل من 1245 مليار دولار. هذا ليس خبرا، ولكنه معلومة معروفة للجميع، لاسيما أولئك المختصون في الأسواق المالية والبورصات. لا شك في أن الإدراج المحلي لـ “أرامكو” سيقود تلقائيا إلى إدراج عالمي لها. فالأسواق العالمية تنتظر ولم تخف حماستها لمثل هذه الخطوة، كما أن الإدراج العالمي يتوافق في الواقع مع قوة وحجم وسمعة ومكانة هذا الكيان الاستثنائي الضخم.   الإدراج الذي تم الحديث عنه، لن يتم بين عشية وضحاها، لأسباب عديدة، في مقدمتها حجم الكيان نفسه وطبيعته. ومع ذلك بات الحديث اليومي للأسواق الإقليمية والعالمية، بل لا يمر يوم إلا وهناك شيء عن هذه الخطوة التي لم تتخذ بعد. ومرة أخرى، هذا أمر طبيعي. جهة تمتلك احتياطات نفطية ثابتة تبلغ أكثر من 260 مليار برميل أو ما يعتبر خمس نفط العالم، إضافة إلى احتياطي من الغاز يصل إلى 283  تريليون قدم مكعبة، أو رابع أكبر احتياطات غازية في العالم. وتشغل أكثر من 56 ألف شخص، ولديها أسطولها الخاص من الناقلات العملاقة، وشبكة من المصافي.. نقول جهة بهذا الشكل، كيف لا تصنع عاصفة من الحديث والتحليل والتوقعات فور الإعلان عن وجود نية ما لإدراج جزء منها في السوق. مع الإشارة إلى أنها تدير في  السعودية أكثر من 100 حقل نفطي وغازي. الجميع يتنظر ويترقب، للأسباب السابقة، إضافة  إلى أن جاذبية “أرامكو” للمستثمرين والباحثين عن الحصول على حصة ما فيها، أكبر بما لا يترك مجالاً للمقارنة من جاذبية بقية المؤسسات النفطية الكبرى الأخرى، بما فيها “برتيش بتروليوم” و”شل” و”تكسكو”  وحتى “شيفرون” وغيرها. والسبب الرئيس في هذه الجاذبية أن عمليات الاستخراج التي تقوم بها “أرامكو” أسهل وأقل تكلفة مما هي عليه مع بقية الشركات المعروفة. دون أن ننسى، الاستقرار الذي تتمتع به “أرامكو” في حين ليس هناك استقرار مضمون لشركات نفطية كبرى أو حتى غير نفطية. فعلى سبيل المثال، تظل شركة مثل “أبل” في دائرة التهديد المستمرة، لأنها تتعرض للتنافس الذي لا يتوقف من حيث المنتجات من شركات أخرى مماثلة. وفي بعض الأحيان تقدمت هذه الشركات على “أبل” في منتج ما. الحال ليس كذلك بالنسبة لـ “أرامكو”. فحتى طرح 5 في المائة فقط في الإدراج الأولى من هذا الكيان الهائل، يحدث ضجة كبيرة في الأسواق، علما بأن المملكة لن تترك أبدا حصتها التي تمكنها من السيطرة على “أرامكو”، فالمسألة هنا لا ترتبط فقط بالاستثمار، بل أيضا بالمكانة الوطنية. كل ذلك، يدخل في إطار انطلاق الاقتصاد السعودي قبل عدة سنوات باتجاهات مختلفة، تضمن مزيدا من الاستدامة، والأهم مزيدا من التنوع في العوائد الوطنية. في الواقع أطلقت المملكة هذه المسيرة من أجل إنشاء اقتصاد جديد، يعتمد على الإنتاج والخدمات والتصنيع والسياحة والتعدين والبتروكيماويات وكل ما هو متوافر في البلاد. وهناك إمكانات كثيرة متوافرة بالفعل، تتطلب إطلاق مشاريع جديدة لاحتوائها. إدراج جزء من “أرامكو” هو خطوة من الخطوات نحو اقتصاد متحول، فتح الأبواب لكل ما يسهم في زيادة الدخل والابتكار والاستثمار. فالموارد المالية التي ستنجم عن طرح “أرامكو” في السوق، هي بحد ذاتها ستكون جزءا من التمويل اللازم لاستكمال بناء الاقتصاد السعودي الجديد، الذي يستهدف نموا لا يتوقف، واستغلال الإمكانات العملية الحقيقية، وتوفير مزيد من فرص العمل. مع الإشارة إلى أن التشريعات التي اتخذت في السنوات القليلة الماضية، تدعم هذا التحول. ربما يمثل إدراج “أرامكو” مرحلة اقتصادية تاريخية على الساحة العالمية والمحلية، لكن التجديد ومخططات التنمية التي أطلقت في المملكة منذ سنوات، ورصد الأموال اللازمة لذلك، تبقى الممثل الرئيس لهذا التحول التاريخي، الذي يستهدف أول من يستهدف الإنسان في حاضره ومستقبله. كاتب اقتصادي
إنشرها
Author

«اللانظام» النقدي العالمي

|
إنتهى العام 2015 والعالم يتباهى بعدد قليل من مناطق النمو القوي. وفي وقت حيث تحتاج البلدان المتقدمة وبلدان الأسواق الناشئة على حد سواء إلى النمو السريع للحفاظ على الاستقرار الداخلي، فإن هذه الحالة بالغة الخطورة. فهي تعكس ضروبا متعددة من العوامل، بما في ذلك نمو الإنتاجية في البلدان الصناعية، وأعباء الديون المتراكمة من فترة الركود العظيم، والاحتياج إلى إعادة صياغة نموذج النمو القائم على التصدير في الأسواق الناشئة. كيف يمكن إذن التعويض عن ضعف الطلب؟ من الناحية النظرية، ينبغي لأسعار الفائدة المنخفضة أن تعمل على تعزيز الاستثمار وإيجاد فرص العمل. أما في الواقع العملي، فإذا كانت أعباء الديون تعني استمرار ضعف الطلب الاستهلاكي، فإن العائد الحقيقي على الاستثمارات الجديدة قد ينهار. بل إن السعر الحقيقي المحايد الذي أشار إليه نوت ويكسل قبل قرن من الزمن ــ والذي يمثل في عموم الأمر سعر الفائدة اللازم لإعادة الاقتصاد إلى التشغيل الكامل للعمالة مع التضخم المستقر ــ ربما يكون سلبيا. ويفسر هذا انجذاب البنوك المركزية إلى السياسة النقدية غير التقليدية، مثل التيسير الكمي. والواقع أن الأدلة التي قد تؤكد أن هذه السياسات تعزز الاستثمار المحلي والاستهلاك مشوشة وملتبسة في أفضل تقدير. وتعد زيادة الإنفاق الحكومي على البنية الأساسية من الوسائل الأخرى المغرية لتحفيز الطلب. ولكن في البلدان المتقدمة، تم تنفيذ أغلب الاستثمارات الواضحة بالفعل. وفي حين يدرك الجميع الحاجة إلى إصلاح أو إحلال البنية الأساسية القائمة (تعد الجسور في الولايات المتحدة مثالا جيدا)، فإن تخصيص الإنفاق على نحو رديء من شأنه أن يزيد من القلق العام بشأن احتمال زيادة الضرائب، وربما زيادة مدخرات الأسر، والحد من استثمارات الشركات. وقد يكون بوسعنا أن نزعم أن إمكانات النمو في الدول الصناعية تراجعت حتى قبل الركود العظيم. وقد أضفى وزير الخزانة الأمريكي السابق لاري سامرز حسا شعبيا على مصطلح “الركود المزمن” عندما وصف ضعف الطلب الكلي الناجم عن الشيخوخة السكانية الذي يتسم بإحجام الناس عن الاستهلاك وزيادة دخول فاحشي الثراء، الذين من غير المرجح أن يزيدوا من استهلاكهم الضخم بالفعل. وتشير هذه الأسباب البنيوية لتباطؤ النمو إلى الحاجة إلى إصلاحات بنيوية: التدابير الكفيلة بزيادة إمكانات النمو من خلال حفز المزيد من المنافسة والمشاركة والإبداع. بيد أن الإصلاحات البنيوية تتعارض مع المصالح الخاصة. وكما قال جان كلود يونكر، الذي كان رئيس وزراء لوكسمبورج آنذاك، في أوج أزمة اليورو: “نحن نعلم جميعا ماذا ينبغي لنا أن نفعل؛ ولكننا لا نعرف كيف قد يعاد انتخابنا بعد أن نفعل ذلك”. إذا كان تحقيق النمو أمرا صعبا إلى هذا الحد في البلدان المتقدمة، فلم لا نرضى بمعدل نمو أقل؟ فنصيبنا في الدخل مرتفع بالفعل على أية حال؟ يرجع أحد الأسباب وراء السعي الحثيث إلى دفع النمو إلى الرغبة في الوفاء بالتزامات الماضي، ففي ستينيات القرن العشرين، بذلت الاقتصادات الصناعية وعودا هائلة في مجال الضمان الاجتماعي لعامة الناس، وتعاظمت الوعود في وقت لاحق بفعل التزامات غير سليمة من الناحية المالية لمصلحة عمال القطاع العام. وعلاوة على ذلك، يشكل النمو ضرورة لتحقيق الوئام الاجتماعي، لأن الشباب ــ الذين يمكنهم دوما النزول إلى الشوارع احتجاجا ــ لابد أن يعملوا لسداد تكاليف هذه الالتزامات التي تستفيد منها الأجيال الأكبر سنا. وإذا تسبب التغير التكنولوجي والعولمة في تضاؤل عدد وظائف الطبقة المتوسطة الجيدة المتاحة لمستوى معين من النمو، فإن هذا يعني الاحتياج إلى المزيد من النمو لمنع فجوة التفاوت بين الناس من الاتساع. وأخيرا، هناك الخوف من الانكماش، واليابان مثال واضح في هذا الصدد، حيث سمح صناع السياسات، وفقا للافتراضات، بإيجاد حلقة مفرغة من الأسعار الهابطة، والطلب المنخفض، والنمو الراكد. الواقع أن الحكمة التقليدية ربما تكون على خطأ. فبعد انفجار فقاعة الأصول في اليابان في أوائل تسعينيات القرن العشرين، أطالت السلطات أمد التباطؤ بسبب تقاعسها عن تنظيف النظام المصرفي أو إعادة هيكلة ديون الشركات المثقلة بالديون. ولكن بمجرد اتخاذ اليابان لإجراءات حاسمة في أواخر التسعينيات وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أصبح نمو نصيب الفرد مشابها لمثيله في أي بلد صناعي آخر. وعلاوة على ذلك، بلغ متوسط معدل البطالة 4.5 في المائة من عام 2000 إلى عام 2014، مقارنة بنحو 6.4 في المائة في الولايات المتحدة ونحو 9.4 في المائة في منطقة اليورو. صحيح أن الانكماش يعمل على زيادة العبء الحقيقي الذي تفرضه الديون القائمة. ولكن إذا كانت الديون مفرطة فإن إعادة الهيكلة الموجهة أفضل من التخلص منه عن طريق فرض التضخم على الجميع. وبعيدا عن هذه الحجج، يطارد شبح الانكماش الحكومات والبنوك المركزية. ومن هنا تنشأ المعضلة في الاقتصادات الصناعية: فكيف يمكن التوفيق بين الحتمية السياسية لتحقيق النمو وحقيقة مفادها أن تدابير التحفيز أثبتت عدم فعاليتها، وأن شطب الديون أمر غير مقبول سياسيا، وأن الإصلاحات البنيوية تفرض قدرا من الآلام أكبر من أن يسمح للحكومات بتبنيها بسهولة. بيد أن البلدان المتقدمة لديها قناة واحدة أخرى للنمو: تعزيز الصادرات من خلال خفض سعر الصرف بفرض سياسة نقدية عدوانية. وفي الظروف المثالية، من الممكن أن تستوعب بلدان الأسواق الناشئة التي تمولها اقتصادات متقدمة هذه الصادرات، في حين تستثمر في مستقبلها، فتعمل بالتالي على تعزيز الطلب الكلي العالمي. ولكن الدرس الذي خرجت به البلدان من أزمة الأسواق الناشئة في التسعينيات هو أن الاعتماد على رأس المال الأجنبي لتمويل الواردات اللازمة للاستثمار أمر خطير. وفي الاستجابة لهذا الخطر، خفضت عدة دول منها الاستثمار في أواخر التسعينيات وبدأت في تجميع فائض الحساب الجاري مفضلة تكديس الاحتياطيات من النقد الأجنبي للحفاظ على قدرة أسعار الصرف التنافسية التي تتمتع بها. وبحلول عام 2050، صاغ محافظ بنك الاحتياطي الفيدرالي بن برنانكي آنذاك مصطلح “تخمة الادخار العالمية” لوصف الفوائض الخارجية، خاصة في الأسواق الناشئة، التي كانت تتحسس طريقها إلى الولايات المتحدة. وأشار برنانكي إلى عواقبها السلبية، خاصة سوء تخصيص الموارد الذي أدى إلى نشوء فقاعة الإسكان في الولايات المتحدة. بعبارة أخرى، قبل اندلاع الأزمة المالية عام 2008، كانت البلدان الناشئة والمتقدمة حبيسة حالة خطيرة من التعايش بين تدفقات رأس المال والطلب التي عكست النمط الذي لا يقل خطورة والذي بدأ قبل اندلاع أزمة الأسواق الناشئة في التسعينيات. وفي أعقاب أزمة 2008، عكس النمط نفسه مرة أخرى، مع تدفق رأس المال إلى الأسواق الناشئة من البلدان المتقدمة، الأمر الذي رسخ للهشاشة التي سوف تتجلى في أوضح صورها مع تشديد البلدان المتقدمة لسياساتها النقدية. في عالم مثالي، ما كانت الحتمية السياسية لتحقيق النمو لتتفوق على إمكانات الاقتصاد. أما في العالم الحقيقي، حيث التزامات الضمان الاجتماعي، وحيث لن تختفي أمور مثل فرط المديونية والفقر، فنحن في احتياج إلى سبل لتحقيق النمو المستدام. وفي المقام الأول من الأهمية، يتعين علينا أن نتجنب سياسات إفقار الجار، مثل السياسة النقدية غير التقليدية أو التدخل المستمر في أسعار الصرف الذي يعمل في المقام الأول على تحفيز تدفق رأس المال إلى الخارج وخفض قيم العملة تنافسيا. الأمر ببساطة هو أن المؤسسات المتعددة الأطراف مثل صندوق النقد الدولي ينبغي لها أن تمارس مسؤولياتها عن الحفاظ على استقرار النظام العالمي من خلال تحليل وإصدار الأحكام بروية على كل من السياسات النقدية غير التقليدية (بما في ذلك التدخل المستمر في تحديد أسعار الصرف). ومن الواضح أن اللانظام الحالي يدفع العالم نحو التيسير النقدي التنافسي، الذي من شأنه أن يلحق الضرر بالجميع في نهاية المطاف. والواقع أن التوصل إلى الإجماع بشأن التجارة الحرة والمواطنة العالمية المسؤولة ــ وبالتالي مقاومة الضغوط السياسية ــ من شأنه أن يمهد الساحة للنمو المستدام الذي يحتاج إليه العالم بشدة. محافظ بنك الاحتياطي الهندي حقوق النشر خاصةبصحيفة «الاقتصادية»
إنشرها
Author

الريال السعودي في 2016.. «كما كنت»

|
الريال السعودي عملة مثبتة بالدولار تثبيتا جامداHard Peg ، حيث لا تسمح السلطات النقدية السعودية "ساما" بتغير معدل صرف الريال بالنسبة للدولار ارتفاعا أو انخفاضا. التثبيت بالنسبة للدولار أو أي عملة دولية أخرى مثل اليورو سياسة اتبعتها دول العالم بعد انهيار نظام معدلات الصرف الثابتة في السبعينيات عندما أعلنت الولايات المتحدة وقف صرف الدولار بالذهب. حيث يناسب التثبيت الاقتصادات الصغيرة المفتوحة بصورة أفضل من تعويم عملاتها وفقا لقوى السوق. أما التثبيت بالنسبة للدولار الأمريكي فهو يناسب بصورة أكبر تلك الدول التي لها علاقات تجارية قوية مع الولايات المتحدة، أو تتركز صادراتها ووارداتها بالدولار، وهذه الشروط تنطبق بصورة واضحة على حالة المملكة. لتثبيت معدل صرف الريال بالدولار، فإن السلطات النقدية تقف مستعدة في أي وقت لبيع الدولار في حالة زيادة الطلب عليه بصورة أكبر من العرض منه، أو شراء الدولار في حالة زيادة العرض منه عن الطلب عليه، بحيث يظل معدل صرف الريال بالدولار ثابتا عند 3.75 ريال لكل دولار، وهي الصورة التي لم تهتز أبدا منذ تبني المملكة سياسة ربط الريال بالدولار في 1986، كما يتضح من الشكل رقم 1، ولكي تمارس السلطات النقدية هذه المهمة بكفاءة لابد أن تحتفظ باحتياطيات دولارية كافية تمكنها على التدخل في أي وقت لضمان استقرار معدل الصرف. ربط الريال بالدولار له مزايا عدة أهمها سهولة إدارة سياسة معدل الصرف بين عملة الدولة وباقي عملات العالم كافة، حيث تحدد السلطات النقدية معدلا محددا لصرف الريال بالدولار، الذي من خلاله تتحدد علاقة الريال بباقي العملات، فيرتفع الريال بالنسبة لهذه العملات مع ارتفاع الدولار وينخفض مع انخفاضه.من جانب آخر فإن الربط بالدولار يساعد نسبيا على حماية الاقتصاد الوطني من التضخم وذلك من خلال ربط السياسة النقدية المحلية بالسياسة النقدية الأمريكية التي تستهدف تحقيق معدل تضخم في حدود 2 في المائة على المدى المتوسط، ويوضح الشكل 2 أن معدل التضخم في المملكة كان في نطاق محدود نسبيا، حيث ساعد الربط على الحفاظ على معدلات تضخم معقولة لم تتجاوز 6 في المائة تقريبا. #2# كذلك يساعد الربط في حالة الدول النفطية على استقرار إيراداتها بالعملة المحلية عند انخفاض قيمة الدولار. فبفرض ثبات سعر النفط فإن انخفاض قيمة الدولار عالميا لا يؤدي إلى انخفاض الإيرادات النفطية للمملكة بالريال حيث سيتم تحويل الدولار بالعدد نفسه من الريالات، بينما لا يفيد ارتفاع قيمة الدولار المالية العامة السعودية، حيث لا يؤدي إلى زيادة الإيرادات النفطية بالريال. أكثر من ذلك فإن الربط الجامد بعملة العالم يساعد على تعزيز ثقة المستثمرين في الاقتصاد السعودي، خصوصا في أوقات الاضطرابات الاقتصادية، نظرا للثقة بقيمة العملة باعتبارها مربوطة بالدولار. هذا بالطبع لا يعني أن الربط الجامد هو السياسة الأمثل للمملكة، فهذه قضية فيها جدل يطول الخوض فيه بين مؤيد للسياسة الحالية ومعارض لها، لكن من المؤكد أن تحقيق بعض المرونة في الربط قد يكون أكثر فائدة للمملكة في تعظيم عوائدها من الربط وتجنب بعض آثاره السلبية. على سبيل المثال لا يساعد على حماية الاقتصاد المحلي من التضخم المستورد في حال تراجعت قيمة الدولار عالميا بالنسبة للعملات الأخرى في العالم، خصوصا إذا كان الجانب الأكبر من الواردات يتم من خلال هذه الدول. منذ فترة والحديث يتصاعد حول احتمالات فك ارتباط الريال بالدولار ولجوء المملكة إلى تخفيض قيمة الريال. العوامل الأساسية التي تقف وراء هذه الضغوط هي استمرار ارتفاع الدولار وحدوث تراجع في قيمة الريال أمام الدولار في العقود الآجلة، إضافة إلى استمرار تراجع سعر النفط وضغوط المالية العامة التي صاحبت ذلك، وبدء المملكة السحب من احتياطياتها الدولارية لمواجهة احتياجات الإنفاق. في ظل هذه الظروف يعتقد المضاربون أن من مصلحة المملكة أن تفك الربط لتخفض سعر صرف الريال بالدولار، وبالتالي تعزز إيراداتها النفطية بالريال السعودي، لكن مثل هذا الإجراء لن يكون مجانيا، فلا شك أن السعودية ستواجه تضخما سعريا نتيجة هذه الخطوة. عزز من تأثير هذه العوامل قيام مؤسسة ستاندرد آند بورز بتخفيض تقييمها السيادي للمملكة في كانون الأول (ديسمبر) الماضي على خلفية تراجع أسعار النفط، وهو الإجراء الذي أحدث جدلا واسعا في المملكة، إضافة إلى عوامل أخرى مساعدة مثل ما نشره صندوق النقد الدولي عن توقعاته لعجز الموازنة وتأثيرات العجز في احتياطيات النقد الأجنبي لديها. أعتقد أن حسابات المضاربين على الريال في السوق الآجلة خاطئة هذه المرة لعدة أسباب أهمها، أولا: أن عوائد فك الارتباط محدودة في حالة الاقتصاد النفطي، حيث من المفترض أن يكون لتخفيض قيمة الريال تبعات إيجابية على تنافسية الصادرات السعودية. غير أنه أخذا في الاعتبار أن صادرات المملكة تتركز في النفط وأن النفط لا يسعر بالريال، وإنما يسعر بالدولار، فإن التخفيض لن يكون له أثر ملموس في تنافسية صادرات المملكة. من جانب آخر فإن ضعف القاعدة الصناعية والزراعية تجعل الواردات مرتفعة، وبالتالي فإن فك الربط وخفض الريال سيتبعه ارتفاع كبير في قيمة فاتورة الواردات وحدوث تضخم محلي. ثانيا مقارنة بالحالات التي تراجعت فيها أسعار النفط في السابق، فإن التراجع الحالي بالذات يأتي والمملكة أكثر استعدادا وقوة على مواجهة تداعياته ولفترة مستقبلية لا بأس بها، باعتبارها صاحبة ثالث أكبر احتياطي في العالم، الأمر الذي يمكنها من التدخل في أي وقت وبأي قدر من النقد الأجنبي لمواجهة ضغوط الطلب في السوق والحفاظ على معدل الربط مع الدولار. ثالثا، أن المملكة حاليا في شبه حالة حرب هي وحلفاؤها ضد الحوثيين في اليمن، ولا شك أن هذه ليست هي الظروف المثالية على الإطلاق التي يتم فيها فك ربط الريال بالدولار. وأخيرا فإن هذه المرة لم تكن هي المرة الأولى التي يتراجع فيها سعر النفط مسببا ضغوطا شديدة على المالية العامة للدولة، وبالتالي تراجع قيمة الريال في السوق الآجل، على العكس من ذلك لقد مرت المملكة بظروف مالية أكثر حدة من تلك التي تواجهها حاليا، وفي ظل مستويات مرتفعة جدا للدين العام واحتياطيات منخفضة، ومع ذلك فلم يتم فك ارتباط الريال بالدولار وقتها. فلماذا يتم الفك هذه المرة؟ لهذه الأسباب أعتقد أن المضاربين في العقود الآجلة على الريال مخطئون. فبالنسبة للمملكة تعد فوائد الربط حتى الآن أكبر من تكاليفه بالنسبة لها، ومن ثم فهو يعد نظاما مثاليا من وجهة نظر السلطات النقدية المحلية، والحفاظ على استمراره يظل أحد أولويات مؤسسة النقد السعودي. فقد واجهت المملكة موقفا مماثلا في 2009 عندما تراجعت أسعار النفط بحدة في أعقاب الأزمة المالية العالمية وتراجعت قيمة الريال أيضا في السوق الآجل ومع ذلك لم يتم فك الربط. من جانب آخر ففي عام 2007 أخذت المضاربات في السوق الآجل اتجاها معاكسا على ارتفاع قيمة الريال بالنسبة للدولار، بسبب ارتفاع أسعار النفط قبل الأزمة، واستمرار ضعف قيمة الدولار الذي بدأ تقريبا في أعقاب تفجيرات 11 أيلول (سبتمبر). فتصاعدت التكهنات باحتمال فك المملكة الربط مع الدولار لمواجهة الضغوط التضخمية الناتجة عن ضعف الدولار، مثلما فعلت الكويت في منتصف 2007، حيث فكت الربط بالدولار وعادت مرة أخرى إلى نظام سلة العملات، على الرغم من أن ربط الكويت الدينار بالدولار لم يكن جامدا، فقد سمح بنك الكويت المركزي للدينار بالتحرك في حدود 3.5 في المائة ارتفاعا وانخفاضا حول معدل الصرف الأساسي، ومع ذلك فقد أقدم بنك الكويت المركزي على فك الربط لمواجهة الضغوط التضخمية المستوردة والناجمة عن ضعف قيمة الدولار، غير أن المملكة لم تفعل ذلك. بالنسبة لساما فإنها تضع استقرار الريال كأحد المستهدفات الأساسية لسياستها النقدية، ومن المعلوم أن الدول التي تربط عملاتها دائما ما تنظر دائما إلى استقرار معدل الصرف على أنه مهم ليس فقط للاستقرار الاقتصادي وإنما أيضا السياسي من خلال الحفاظ على القوة الشرائية لدخول مواطنيها من خلال استقرار معدل صرف العملة. على الرغم من أن تخفيض قيمة الريال في الوقت الحالي يفيد مالية المملكة لأنه سيرفع من حصيلة الإيرادات النفطية بالريال، ولكن له آثار سلبية عديدة على رأسها استقرار التوقعات المستقبلية لقيمة الريال، واهتزاز الثقة بمدى التزام ساما نحو الريال، وربما يوجد حالة من عدم التأكد حول مستقبل الريال. فإذا ما قامت ساما بخفض الريال مرة الآن، فإن ذلك لن يمنع من الخفض مرات قادمة. من جانب آخر فإن الخفض يرفع من مخاطر التضخم مع تصاعد فاتورة الواردات وضعف احتمالات انخفاضها نظرا لضعف هيكل الإنتاج المحلي، وبالتالي فإن صافي العوائد من عملية التخفيض سيكون سالبا. لكل هذه العوامل فإن احتمالات فك ساما ربط الريال بالدولار تعد منعدمة، وأنه بالفعل لا تفكير في تخفيض قيمة الريال استجابة للضغوط التي أشرنا إليها أعلاه، ومن ثم سيظل استقرار معدل صرف الريال بالدولار قائما في المستقبل عند مستوى 3.75 ريال للدولار. هذا بالطبع لن يؤثر في شهية المضاربين نحو الاستمرار في تبني معدلات صرف مستقبلية أقل، خصوصا أن المضاربات في العقود الآجلة على الريال لا تكلفهم سوى تكلفة بسيطة يمكن إهمالها. استاذ الاقتصاد - جامعة الكويت
إنشرها
أسعار الفائدة السلبية.. حالة بالغة الخطورة

أسعار الفائدة السلبية.. حالة بالغة الخطورة

يحفظ أمواله في مصرف يجمع فائدة، الذي يأخذ قرضا يدفع فائدة. هذه هي الحالة العادية. لكن هل هذا الأمر هو نفسه...

Author

مستقبل الأسواق الثانوية وأدوات الدين في المملكة

|
متخصص في المعاملات المالية، مستشار في المالية الإسلامية ـ الجامعة السعودية الإلكترونية
ينتظر أن يكون العام الجاري انطلاقة لبدء توسيع قاعدة الأدوات المالية في السعودية بالمشتقات المالية أو بسوق للسلع.. فما السو ق الأولية؟: السوق الأولية والسوق الثانوية هي سوق تتيح للمستثمرين الاستفادة من مجموعة من الأوراق المالية والاستثمارات من خلال أسواق منظمة تشرف عليها مؤسسة حكومية بغرض متابعة وتسهيل عملية التسجيل والتداول، وتحفظ حقوق المستثمر وتضع التشريعات التي تهدف إلى تعزيز كفاءة السوق، وتعريف السوق الثانوية أو ما يسمى (Secondary Market) كما جاء في الموسوعة العالمي ويكيبيديا (Wikipedia) “The secondary market, is the financial market in which previously issued financial instruments such as stock, bonds, options, and futures are bought and sold. Another frequent usage of “secondary market” is to refer to loans which are sold by a mortgage bank to investors such as Fannie Mae and Freddie Mac. “ فالمقصود هنا بالسوق الأولية هي السوق التي يتم تداولها من غير الجهة المصدرة لها وهو ما يحصل حاليا في الأسهم التي يتم شراؤها من السوق المالية باعتبار أن هذه الأسهم يملكها جهة ليست هي الشركة أو البنك الذي أصدرها أولا، ويدخل في ذلك مجموعة من الأدوات والأوراق المالية مثل الأسهم والسندات والصكوك الإسلامية وعقود الخيارات والبيوع المستقبلية والعقدين الأخيرين يصنفان ضمن عقود ما يسمى بالمشتقات المالية، وتعريف السوق الثانوية يدعونا إلى معرفة السوق المقابلة لها وهي ما يسمى بالسوق الأولية، وكما جاء أيضا في تعريفها في الموسوعة العالمية: “In the primary market, investors purchase these securities directly from issuers such as corporations issuing shares in an IPO or private placement, or directly from the federal government in the case of treasuries. After the initial issuance, investors can purchase from other investors in the secondary market.” فالسوق الأولية تعني شراء الأدوات المالية من الجهة المصدرة لها مثل الشركة المساهمة عندما تعلن الاكتتاب في أسهمها، أو الشركات التي تطرح سندات أو صكوكا طرحا عاما عند إصدارها، وبعد بيع هذه الإصدارات يتحول تداولها إلى السوق الثانوية. والسوق الثانوية أصبحت اليوم جزءا من مكونات اقتصادات الدول ومؤشرا على المتغيرات الاقتصادية، وتنظيم هذا السوق ووضع التشريعات التي تزيد من كفاءتها له دور في توفير فرص جيدة للأفراد للاستثمار وتنمية مدخراتهم على المدى الطويل والقدرة على مواجهة المتغيرات مثل التضخم الذي يؤدي إلى تآكل دخل الفرد إذا لم يكن لديه مصادر أخرى لزيادة الدخل، وهي في المقابل تتجاوب بصورة إيجابية غالبا مع التضخم باعتبار أنه قد يزيد في موارد الشركات الجيدة، أما بالنسبة للشركات فإن السوق الأولية تعتبر فرصة لها للاستثمار أو طرح جزء من أسهمها كي يتداوله المستثمرون إضافة إلى أنه يعزز من مركز الشركة باعتبار أن إدراج أسهمها في السوق قد يقوي مركزها المالي وتصنيفها بما يمكنها من التوسع في الاقتراض وزيادة استثماراتها في مجالاتها الرئيسة، وحوكمة الشركة بما يعزز من فرص استدامة أعمال وأنشطة الشركة. السوق المالية السعودية تطورت بصورة كبيرة في الفترة القصيرة الماضية فبعد أن كانت سوقا يغلب عليها تداول الأفراد بما يؤثر في كفاءة السوق، وزيادة تذبذبها بصورة غير منطقية والتركيز في التداول على شركات دون وجود معايير تحدد السعر المنطقي لسقفه الأعلى والأدنى وذلك يتم بصورة مبالغ فيها عملت الجهات التنظيمية والتشريعية على خطوات تحد من هذه الممارسات التي تعكس صورة سلبية عن السوق، وذلك من خلال التشريعات التي تشجع التداول بصورة إيجابية في السوق وليس بالتضييق على تداولات الأفراد، فنظمت الجهات التشريعية نشاط البنوك الاستثمارية وألزمت بالفصل بين البنوك التجارية والبنوك الاستثمارية ووفرت بيئة إيجابية لإنشاء مزيد من البنوك الاستثمارية للعمل كوسيط والاستثمار في السوق المالية، إضافة إلى إنشاء الصناديق التي يمكن أن يشترك فيها الأفراد والمؤسسات بحيث تمارس نشاطا محددا مثل الاستثمار في سوق الأسهم أو في الاستثمارات العقارية أو غيرها من الأنشطة التي يمكن أن توفر فرصا أكثر أمانا للمستثمر وتدار بصورة أكثر كفاءة من قبل تلك المؤسسات المالية، بعد ذلك تم فتح السوق للأجانب المقيمين بالمملكة لتوفير فرص أفضل لهم وليشاركوا المواطنين في الاستثمار في السوق باعتبار أنهم أصبحوا جزءا من المجتمع يؤثر في نشاطه الاقتصادي وهو ما قد يحفز على عدم تحويل الأموال بغرض البحث عن فرص استثمارية في دول أخرى. من الخطوات المهمة التي تمت في السوق المالية السعودية هو توسيع قاعدة الأدوات المالية بحيث إنها لم تقتصر على الأسهم كما هو الأمر في السابق بل تم الترخيص لبعض الصناديق ليتم تداولها في السوق بالطريقة التي يتم بها تداول الأسهم، إضافة إلى إنشاء سوق الصكوك الإسلامية والسندات التي تعتبر فرصة جيدة للمواطنين للاستثمار في أدوات منخفضة المخاطر خصوصا الصكوك الإسلامية باعتبار أنها أداة متوافقة مع الشريعة، وهذه السوق تفتح مجالا لكثير من الشركات لإيجاد مصدر إضافي للتمويل بالاستفادة من السيولة التي لدى الأفراد والمستثمرين بدلا من الاعتماد على البنوك التي قد لا تتمكن من توفير التمويل الكافي لتلك الشركات خصوصا الكبرى منها. واليوم نجد أن المملكة توسعت في الترخيص لمجموعة من المؤسسات الأجنبية للاستثمار بصورة مباشرة في السوق السعودية وهذا ما سيكون له أثر إيجابي على سمعة السوق عالميا ويعزز من خضوعه لمعايير عالمية فيما يتعلق بالقيمة العادلة للأسهم ويزيد من فرص التحاق السوق المالية السعودية بالمؤشرات العالمية، إضافة إلى زيادة تدفق السيولة في هذه السوق. لا شك أن مستقبل السوق السعودي ينتظره المزيد من الفرص والتحديات، حيث لا زال السوق قابلا للتوسع من خلال توسيع قاعدة الأدوات المالية كالمشتقات المالية أو سوق للسلع وهذا ما تم الإعلان عنه كخطة ستتم لاحقا وقد تكون قريبا جدا حيث أن السوق مهيأة بل تحتاج إلى ذلك، والسوق المالية حاليا تعتبر قريبة من أعين ومتابعة المستثمرين في العالم خصوصا بعد وجود احتمال طرح شركة أرامكو السعودية أو بعض استثماراتها في السوق المالية وهي شركة النفط الأضخم عالميا في بلد يعتبر المنتج والمصدر الأكبر للنفط، وقد تم الإعلان عن دراسات لتخصيص مجموعة من القطاعات التي تمتلكها حاليا الحكومة ومن ذلك المطارات الدولية بالمملكة. أما على مستوى سوق الديون فإن المؤشرات تعزز من فرص نشاطها وجاذبيتها بصورة كبيرة باعتبار أنها سوق تقدم أدوات منخفضة المخاطر، إضافة إلى أن المتوقع أن تتم زيادة سعر الفائدة بصورة متدرجة بما يعزز من فرص تحقيق عوائد أفضل من إصدارات سوق الدين، كما أن الخطوات الحكومية التي بدأت فعليا بإصدار مجموعة من السندات سوف تتبعها إصدارات أخرى ويتوقع التوسع الحكومي في إصدار الصكوك الإسلامية كما تضمنته استراتيجية الميزانية الحكومية التي صاحبت إعلان الميزانية العامة للدولة هذا العام. أما فيما يتعلق بالتحديات فما زالت أسعار النفط تمثل تحديا كبيرا لتحقيق هذه التحولات الإيجابية بالصورة الأمثل، كما أن الخطوات الحكومية لتنويع مصادر الدخل وتشجيع استقطاب الاستثمارات الأجنبية، وتنويع قاعدة الصادرات الوطنية، وتغيير سياسة الدعم الحكومي قد يصاحبه مجموعة من القرارات المؤثرة حاليا ولكن إيجابية بإذن الله في المستقبل. كاتب وأكاديمي متخصص في التمويل الإسلامي
إنشرها
البنوك المركزية في العالم .. «سلطة منتزعة» منذ عام 1844
البنوك المركزية في العالم .. «سلطة منتزعة» منذ عام 1844

انطلق عام 2016 على وقع تحركات ضخمة وتاريخية لعدد من البنوك المركزية على مستوى العالم ولا سيما الرئيسة منها...

Author

دورة اقتصادية.. أم انكماش؟

|
رغم كل ما يحيط بالاقتصاد العالمي من تنبؤات سيئة مبنية في أساسها على تباطؤ النمو في كثير من اقتصادات الدول، وتردي أسعار النفط التي بدأت سلسلة من التراجعات منذ منتصف عام 2014 وما زالت مستمرة مع تباين صارخ في توقعات بيوت الخبرة النفطية والمحللين العالميين، فمنهم من يجزم أن الأسعار ستتعافى عام 2017 على أبعد تقدير، وهناك فريق آخر يرى العكس تماما “ربما تكون نظرة تشاؤمية”، حيث يعتقدون أن الأسعار مرشحة إلى مزيد من التدهور، وأنها “أي أسعار النفط” ستهوي إلى ما دون 20 دولارا للبرميل لا محالة. لكن لا يغيب عن البال أن كبار المنتجين يجرون حاليا محادثات جادة لتجميد الإنتاج، وبطبيعة الحال فإن مثل هذا القرار سيؤثر إيجابا في الأسعار. الأمر لا يتوقف عند هذا فحسب، فهناك على الضفة الأخرى أحداث مؤلمة في سوق العملات هي في مجرياتها حرب عملات، بعضها يجري في الخفاء، وبعضها الآخر يجري في العلن، فبعد أن أعلنت جانيت يلين رئيسة “الاحتياطي الفيدرالي” الأمريكي زيادة سعر الفائدة بنسبة 25 نقطة أساس ليصل سعر الفائدة الأمريكي إلى نصف في المائة، ليأتي هذا القرار في توقيت سيئ للاقتصادات الناشئة، في المقابل وقع اليوان الصيني في مطب عميق عندما أقدمت بكين على خفض قيمة عملتها فوقعت في أزمة أشد تأثيرا، فأعادت حساباتها وراجعت تبعات قرارها ومنها هروب رؤوس الأموال، فتداركت الوضع لترفع قيمة اليوان، اليورو والين تراجعا بنحو 28 في المائة، و38 في المائة على الترتيب، ومن المرجح أن يستمر الوضع المضطرب للعملة الأوروبية الموحدة والين الياباني خلال العام الجاري. ومع مخاوف البنوك المركزية والمستثمرين في العملات ظهر بريق الذهب لترتفع قيمته تباعا ويزداد الإقبال عليه كملاذ آمن عندما تشتد الأزمات ولا تلوح في الأفق بوادر لاستقرار العملات. من المفروض أن تلعب السياسات النقدية العالمية عبر التحكم في أسعار الفائدة أو من خلال سياسة التيسير الكمي دورا مفصليا في التخفيف من حدة الأزمات ومواجهة الركود والكساد، وقد حدث هذا عندما اندلعت الأزمة المالية العالمية عام 2008، لكن الفائدة السلبية جاءت لتزيد حدة الأوضاع، الأمر الذي جعل الثلاثة الكبار “الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، البنك المركزي الأوروبي والبنك المركزي الياباني” أمام مأزق كبير شكل عقبات أكبر وضعت الاقتصاد العالمي في آلام مخاض شديدة، ليبقى شبح الانكماش يطارد الحكومات والبنوك المركزية، وفي حين رفع “الفيدرالي الأمريكي” سعر الفائدة أخيرا بشكل طفيف، إلا أن نظيريه “الأوروبي” و”الياباني” اتخذا طريقا معاكسا بتبني معدلات فائدة سلبية لا يمكن أن تحقق النمو المطلوب وربما يكون ذلك مؤشرا قويا على أن السياسات النقدية فقدت أدواتها المؤثرة ولم تعد قادرة على الخروج من الأزمة الاقتصادية، فالمسكنات الوقتية لم تعد تجدي نفعا. لا شك أن الدولار “سيد العملات” وتأثيره في التجارة الدولية والاقتصاد العالمي يعطي “الفيدرالي الأمريكي” دور المتحكم الأساس في الجزء الأكبر من الاحتياطيات المالية العالمية، وهو دور ليس باستطاعة المركزي الأوروبي و”المركزي الياباني” الوصول إليه. قبل أسبوع وجه حكماء الاقتصاد الألماني نقدا حادا للسياسة المالية المتساهلة للبنك المركزي الأوروبي بسبب التدفقات المالية الأخيرة للبنك في الأسواق المالية، الأمر الذي جعل هؤلاء الحكماء يبدون تخوفهم من خطر حدوث انكماش “أي حدوث دوامة من انخفاض الأسعار؛ وهو ما يمكن أن يخنق الاقتصاد”. ما حصل ويحصل حتى الآن لم يقع منذ عقد، فهل نحن أمام دورة اقتصادية، أم انكماش؟ تختلف الرؤى حيال هذا التساؤل، قد تكون هذه أو ذاك، إلا أنه لا يخفى على المتابع أن هذا الصراع العنيف بين العملات ستكون له تداعياته وتأثيراته في المستقبل أكثر منه في الحاضر. في إصدار صحيفة “الاقتصادية” السنوي “الاقتصاد العالمي 2016” سيكون من المهم تناول مستجدات اقتصادية غير عادية في السعودية ودول الخليج. قوبل إنشاء مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية الذي يقوده الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، بتفاؤل كبير من جميع شرائح المجتمع، بل حتى على المستوى الخارجي، فهذا المجلس في حد ذاته تجربة فريدة في المملكة والشرق الأوسط، حيث يتولى المجلس ـــ بإشراف مباشر ومتابعة دقيقة من رئيسه ـــ مرحلة تحول اقتصادي كبرى غير مسبوقة، وهو يتبنى اليوم قرارات مصيرية ذات تأثيرات عميقة في بنية الاقتصاد السعودي وهيكلته، ورئيس المجلس الأمير محمد بن سلمان، عقد العزم على مواجهة التحديات وتنويع حقيقي لاقتصاد البلد، وأن يتم إحداث تحول حقيقي في اقتصاد المملكة من خلال خطط وآليات برزت خطوطها العريضة في مشروع التحول الوطني. ومما يحسب لهذا المجلس، وبشكل يعكس بوضوح جدية توجهاته وطموحاته الكبيرة، أنه بدأ بنفسه، حيث خصص اجتماعات لمراجعة أعماله والقرارات التي اتخذها في عامه الأول، قبل أن يبدأ بمراقبة الجهات الأخرى ومحاسبة المسؤولين، ليؤكد أنه لا وقت للانتظار والركون إلى ما تحقق في سنوات مضت بمصدر واحد للدخل، وسيمضي المجلس قدما في سبيل إصلاح الاقتصاد السعودي وثقافة العمل فيه بما يعود بمنافع متنوعة على الوطن والمواطن. بوجود مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية وما حدده من مسارات سيتحقق ما تسعى إليه السعودية من عدم الاعتماد على النفط، وستنمو الصناعات التحويلية غير النفطية، إلى جانب جذب شركات عالمية كبرى يستفاد من تقنياتها الصناعية والفنية والإنتاجية محليا، وتوفير كثير من الوظائف للمواطنين، على أن يتزامن ذلك مع إطلاق قدرات القطاع الخاص ودعم برامج الشراكة والتخصيص والمشاريع الصغيرة والمتوسطة، فضلا عن تهيئة بيئة الأعمال من خلال إصلاحات تشريعية وإجرائية عديدة. خليجيا.. من الواضح جليا أن دول مجلس التعاون دخلت في مرحلة جديدة لا مجال فيها للعودة إلى ما مضى، فهناك سياسات مالية جديدة تواكب المتغيرات لتحفيز النمو في كل القطاعات الإنتاجية غير النفطية وجذب الاستثمارات العالمية والتوسع في التصنيع وتجارة الجملة والتجزئة والخدمات المالية والسياحية لتشكل محورا رئيسا لاقتصاد دول الخليج مجتمعة.

اخر مقالات الكاتب

    ..
إنشرها