Author

إلى أي مدى علينا الانحياز إلى ما لدينا؟

|
أستاذ جامعي ـ السويد
يتصور الأقوياء أفرادا أو مجتمعات أو دول، أن انحيازهم وبقوة لما لديهم سيجبر الضعفاء على مجاراتهم. والأقوياء أصحاب السلطة والجاه يتبنون طرائق وأساليب مختلفة تظهر أول ما تظهر في أنماط وألفاظ لغوية ــ خطاب ــ لجعل الضعيف تابعا ذليلا، وإن لم ينفع ذلك يلجأون إلى العنف ولا سيما المفرط منه لتحقيق مأربهم في سحق إرادة ما يرون أنه أضعف منهم. والسلطة بجميع أشكالها منها السياسية والدينية والمذهبية والعسكرية والاقتصادية، تذهب بعيدا جدا في تخمين قدرتها إلى درجة أنها قد تصاب بالعمى من خلال تبنيها إجراءات غاشمة تفقدها البصر والبصيرة، حيث تقع في مصيدة خطأ التقدير ولا سيما للطرف الضعيف. وهكذا ترى مثلا دولة ذات مقدرات عسكرية واقتصادية هائلة يدعمها إعلام لا حدود لإمكاناته تقحم نفسها في معارك وحروب وصراعات مع دول وشعوب فقيرة وضعيفة يزينها لها أصحابها وكأنها ورد مفروش، ولكن سرعان ما تتحول إلى كارثة تفقدها صوابها. والتاريخ يحدثنا كثيرا وبالدليل القاطع أن القوة والسلطة الغاشمة غالبا ما تسقط صريعة على أيدى المستضعفين والضعفاء، ليس لأنهم يعادونها ولكنها تخلق منهم أعداء لنفسها. ولهذا ترى أن السلطة الغاشمة غالبا ما تهاجم من هو في نظرها أضعف حلقة في العالم وتتردد، لا بل تتجنب مهاجمة أو مصارعة أي سلطة تعتقد أنها قد تشكل تحديا كبيرا لها. والانحياز صوب السطوة والبطش يأخذ أصحابه بعيدا، حيث لا يقدرون ولا يدرسون ولا بودهم حتى التعلم من تجربة الشعوب، فتراهم يقحمون أنفسهم في معارك وصراعات مع من يرونه ضعيفا، دون الاكتراث لثقافته وتاريخه وتشبثه وانحيازه لما لديه. وإن أردنا البرهنة على هذه الفرضية الفكرية فنحن لسنا في حاجة إلى الولوج في أعماق التاريخ. هناك شواهد كثيرة معاصرة لنا وتعيش معنا ونعيش معها. مثلا دراسة أكاديمية حديثة خرجت باستنتاج مفاده أن الحرب الفيتنامية كان في الإمكان اختصارها وتقليص كوارثها إلى حد كبير لو درست الإدارة الأمريكية حينئذ ثقافة الفيتناميين وطريقة انحيازهم إلى ما لديهم، رغم القوة العسكرية الجبارة والهائلة التي كانت تحاول هزيمتهم. والقوي غالبا ما يخفق في تعلم الدرس من الماضي. أقحمت أمريكا نفسها في حرب رأتها في البداية من أسهل الحروب وأقلها ضررا عند غزوها العراق في عام 2003 دون أن تكترث لثقافة البلد وتاريخه ودينه ومذاهبه وشيمة أهله. ماذا حدث؟ النتيجة كانت هروبا جماعيا لأكبر قوة عسكرية في العالم أمام مجاميع من المقاومين الحفاة رغم الحصار المطبق الذي فرضه العالم عليهم. ما حدث هو أن الضعفاء ما زالوا موجودين والأقوياء ــ أمريكا ــ ما زالوا أقوياء وهذا معناه أن الصراع محصلته سلبية للطرفين، حيث لم يستطع القوي فرض إرادته ولا الضعيف دحر القوي وإنهائه. والأمر يتكرر في أفغانستان وسيتكرر في فلسطين ما لم تلحق إسرائيل الغاشمة نفسها، وحدث الشيء ذاته في سورية عندما تصورت الحكومة الغاشمة هناك أنه باستطاعتها البطش بكل من يناوئها من الضعفاء. والأمر من الناحية السياسية حدث في مصر عندما استقوى أصحاب السلطة وتصوروا أنه بإمكانهم دحر من يعارضونهم. وبالإمكان الإتيان بأمثلة كثيرة من الواقع العربي والإسلامي. ومن هذا المنطلق انظر إلى الصراع الطائفي المرير بين السنة والشيعة من المسلمين. الاقتتال بينهما لن ينهي أي طرف ولن يثلم إرادة أي طرف وفي النهاية لن يكون هناك منتصر وسيبقى الطرفان، ولكنهما سيكونان في وضع أضعف مما يمكن تصوره لأن الطرفين يفتقدان قاعدة تكنولوجية علمية واقتصادية متينة للاحتفاظ بعناصر القوة، حيث إنهما يتعاركان بأسلحة وتكنولوجيا منشأها دول لا تكن للطرفين ودا وينهكان اقتصادياتهما بتخصيص مبالغ طائلة لاستيراد الأسلحة وغيرها من مستلزمات تديم الصراع بدلا من توجيهها صوب التنمية والعمران.
إنشرها