Author

هيا بنا نتمرّد على الوظيفة

|
بدأت قبل نحو أسبوعين سلسلة مقالات عن العلاقة بين الوظيفة والعبودية. ففي المقال الأول بينت كيف مارس الإنسان على الإنسان العبودية منذ أن كان عبدا يباع ويشترى كالسلعة في الأسواق مرورا بعصر الإقطاع حينما كان يعمل الإنسان فلاحا عند الإقطاعيين من أجل طعامه وشرابه، ثم وصلت العبودية ذروتها في هذا العهد حتى أصبح نبلاء الرأسمالية يستنزفون جهود الناس وفكرهم ووقتهم ثم يرمون لهم بالفتات على هيئة مرتب يظل الموظف يقتات به حتى يتقاعد، عندها يجد نفسه فقيرا معدما يدرك بعدها أنه لم يكن يوما من الأيام موظفا كما خيل إليه، بل من ''أقنان الأرض'' كما كان الناس في عصر الإقطاع، وعبد كما كان أجداده في عصر العبودية الأولى. أما المقال الثاني فقد كان مقتصرا على القيود التي تفرضها المنظمات الحكومية وغير الحكومية على الموظفين من أجل أن يبقوا عبيدا لها، فلا يحق لهم العمل خارج وقت الدوام الرسمي وإن سولت لأحد أن يتمرد على لوائحها فإنها لن تتردد في تغيير قانون العمل والعمال من أجل أن تستنزف كل طاقته حتى يعود الموظف إلى بيته منهكا، مجهدا، محطما يدخل في سبات عميق حتى يومه الثاني، فلم يعد هناك وقت يفكر فيه في الحرية. وفي مقال الأسبوع الماضي عرضت نماذج عدة نراها تُمارس على الموظف خارج نطاق بيئته التنظيمية من قبل الشركات عندما يريد أن يقتني حاجياته من طعام وشراب وملبس، وكيف تحاصره البنوك والمؤسسات المالية من كل جانب من أجل ألا يبقى معه ما يبدأ به مشروعا بسيطا يستغني به عن ذل الوظيفة. والآن كيف لنا أن نحرر أنفسنا من القيود التي في أيدينا والأغلال التي في أعناقنا؟ أريد في هذا المقال أن أبين بعض المقترحات التي نستطيع بها أن نفلت من شراك ''نبلاء العصر'' ونحقق لذواتنا موارد رزق آمنة عن طريق التمرد التدريجي على الوظيفة حتى يُعاد هيكلة الوظائف بما يليق ومصالح الناس وتحقيق الرفاهية الاقتصادية لهم. أولا وقبل كل شيء يجب أن ندرك ونقتنع بأننا بالفعل ''عبيد'' باسم ''موظفين''، فإن كان هناك شك فيما أقول فكلام كهذا لا يفيد. فإن تيقنت من هذه الحقيقية فلنبدأ في آليات التحرر ومنها التمرد على الوظيفة .. لكن كيف نتمرد على الوظيفة دون الإخلال بالأمانة؟ عليك أن تفكر في مصدر آخر للدخل غير مصدر الوظيفة. وقد بيّنت في مقالات سابقة كيفية إيجاد مصدر دخل ولو بسيط يعينك على ضغوط الحياة، لكن يجب أن يكون هذا التفكير مبكرا قبل أن تتورط في قروض أو شراء سلع استهلاكية، فإن فعلت هذه الأخيرة فقد أجلت التحرر من عبودية الوظيفة سنين عددا، لكن إن أسرتك القروض فيمكنك أن تنهض من كبوتك من جديد. وأول خطوة للحصول على مصدر آخر للدخل هي الادخار، وليس هناك وسيلة أخرى غير الادخار. درب نفسك على عادة الادخار فإذا لم تروض نفسك ومن تعول على الادخار فلن تتقدم خطوة إلى الأمام وستظل مستهلكا كما تريدك الشركات وقطاعات الأعمال. ألا ترى أنه يطلق عليك المستهلك إذا أردت شراء سلعة أو التمتع بخدمة؟ فأنت في نظرهم مستهلك، أي أنك تقتنى الشيء من أجل استهلاكه، وهذا يعني الاستهتار بالمال وتبديده. وبعد ترسيخ عادة الادخار تبدأ بالاستثمار. وكلمة الاستثمار ليست حكرا على الشركات وأرباب الأموال، بل نستطيع - أنت وأنا - أن نمارس الاستثمار باقتدار ونحقق منه موارد تغنينا عن العبودية، لكن بمنظور المستثمر الفرد وليس بمنظور الشركات والمؤسسات. فآليات الاستثمار وإن كانت متشابهة بين الشركات والأفراد إلا أن هناك نماذج خاصة تناسب استثمار الأفراد قد لا تتفق مع النماذج التي تمارسها الشركات. ومع الأسف الشديد، أغلبية النماذج والنظريات التي تناقش الاستثمار تصب في مصلحة الشركات وقطاعات الأعمال، وليس هناك ما يسد هذه الثغرة في أدبيات التمويل إلا بالنذر اليسير، إلا أنها موجودة إذا كانت الرغبة في الاستثمار حاضرة لدى الفرد. ابدأ بمشروع - ولو صغيرا جدا - هدفه الأساس أن يدرّ مالا بسيطا يعينك على متطلبات الحياة في الحاضر وتستغني به عن الوظيفة في المستقبل. وعليك أن تختار المشروع الذي يناسب وقتك وقدراتك وتعرف شيئا منه، فأنت الوحيد الذي يعرف نفسك التي بين جوانحك. فكر في مشروع يدر عليك دخلا بسيطا وبمخاطرة آمنة ولديك المقومات اللازمة للمضي به قدما وتحقيق موارد هدفها، كما أسلفت، التحرر من عبودية الوظيفة وليس تكوين ثروة حتى تكون الوظيفة المصدر الثاني أو الثالث للدخل. وقد تفشل في هذا، لكنك لن تخسر كثيرا، فمخاطرك محسوبة وما عليك سوى أن تعيد المحاولة، فالنجاح عادة لا يتحقق إلا بسلسلة من الفشل والمثبطات. وكلمة مشروع ليس بالضرورة أن يكون مشروعا تجاريا بمعناه التقليدي، بل يمكنك أن تستثمر في نفسك وخبراتك ومؤهلاتك، فقد تقدم خدمة لبعض المؤسسات والأفراد في مجال البرامج الحاسوبية - على سبيل المثال - أو تدريس بعض المواد لبعض الجهات أو الأفراد إذا كنت ملما ببعض العلوم، أنت الوحيد الذي يعرف ما بداخلك، المهم فتش في نفسك سترى أن هناك أشياء تستطيع أن تستثمرها وتدر عليك أموالا غير راتبك من الوظيفة. وعليك الحذر ثم الحذر ثم الحذر من البنوك والمؤسسات المالية، ما ظهر منها وما بطن، التقليدية منها والإسلامية، الصغيرة منها والكبيرة، فكلها تتحين الفرصة لاقتناصك، وهي لم تأت لتوفر لك السيولة، بل أتت لتأخذ ما بين يديك وما خلفك وما أمامك في مستقبل أيامك من أموال ومدخرات. هذه بعض المقترحات للتحرر من الوظيفة - حسب المساحة المخصصة - أردت أن أشاطرك إياها وأنا متأكد أن لديك الكثير، المهم، لنبدأ معاً في التمرد على الوظيفة.
إنشرها