Author

كيف تتعامل السويد مع أصحاب الأديان والمذاهب

|
أستاذ جامعي ـ السويد
الأديان أتت نعمة للبشرية، بيد أن تطبيقها وممارستها على أرض الواقع جعل كثيرا من المؤرخين والفلاسفة والمفكرين ينظرون إليها كنقمة. والنقمة ليست في الدين ذاته كنصوص يراها أصحابها مقدسة. النقمة تأتي عندما يضع البشر أنفسهم حكاما على الدين ووكلاء الله في الأرض، بيدهم مفاتيح ليس فقط السماء بل الأرض أيضا، حيث يمنحون أنفسهم ليس فقط حق رمي الناس في نار الجحيم أو نعيم الجنة بعد الممات، بل تكفيرهم في هذه الأرض أيضا وإيقاع أقسى العقوبات عليهم منها عقوبة الموت بأشكاله المرعبة. لم ينج دين كممارسة من هذا الوصف مهما تباهى أصحابه بنصوصه، وكانت أوروبا مسرحا رهيبا لهذه الممارسات المرعبة ووصل الأمر فيها إلى حرق الناس أحياء وبأعداد غفيرة ليس لأنها من دين مختلف، بل لأن تفسيرها للنص المقدس مختلف. ولا نجافي الحقيقة إن قلنا إن ممارسات مرعبة تقع اليوم باسم الدين ــ والدين براء منها ــ في بعض أمصار العرب والمسلمين، يغذيها خطاب تكفيري من علماء دين جعلوا أنفسهم ــ كما كان الوضع في أوروبا ــ وكلاء السماء في الأرض. الغرب تخلص من المؤسساتية الدينية ولكن بعد أن دفع أثمانا باهظة جدا. وهذا الخلاص لم يكن بواسطة ثورة عارمة على رجال الدين ومؤسساتهم، بل من خلال التنوير الذي قام به مفكرون وفلاسفة بينوا وبرهنوا للعامة ــ التي عادة تميل صوب الغيبيات في الأزمات ــ أن هناك بونا شاسعا بين ما يدعو إليه النص المقدس وما تدعو إليه المؤسسة الدينية. والفضل أظن يعود إلى كانت، الفيلسوف الألماني، الذي دعا في مستهل القرن الثامن عشر إلى التخلي عن الدين كمعيار للأخلاق الإنسانية السليمة، والنظر إلى التصرف السليم من حيث مواءمته للخلق السليم والحس الإنساني السليم، وليس مطابقته للتعليمات التي لدى المؤسسة الدينية. وألمانيا هي مهد الإصلاح الديني في المسيحية، حيث ظهرت أول حركة إصلاحية في القرن السادس عشر بزعامة مارتن لوثر رفضت الكثير من الأدوار الرئيسة للمؤسسات الكنسية ورجالاتها، منها الحصول على الغفران للذنوب ــ أي الطريق إلى الجنة ــ من خلال رجال الدين وفتاواهم. وتأثر شمال أوروبا ومنه السويد بهذه الأفكار. وهذه الدول الفائقة التطور تقول اليوم إنها مدينة إلى كل من كانت ولوثر، وإن ما حصلت عليه من تطور مذهل ما كان يحصل لولا أفكارهما وفلسفتيهما. وإلى اليوم وفي كل الدول الإسكندنافية تحتفل الجامعات بشكل بهيج بتخرج أي طالب دكتوراه، وذلك بدق مسمار في ثقب في الأطروحة وتثبيتها في أحد الحيطان البارزة، تيمنا بما قام به لوثر عندما علقّ إعلانه الشهير المعارض للمؤسساتية التي كانت تمثلها عندئذ الكنيسة بقيادة البابا في الفاتيكان. في السويد وشقيقاتها من الدول الإسكندنافية كل شيء يقاس ليس بما تقوله المؤسسة الدينية وليس حتى بما تقوله النصوص التي تعتبرها مقدسة، بل ضمن قياس الأخلاق الإنسانية الحميدة والحسنة. مهما كانت قدسية النص المقدس لدى أصحابه يجب ألا تعارض أحكامه وتفسيراته الأخلاق الإنسانية الفاضلة. وما هي الأخلاق الإنسانية الفاضلة حسب هذا المفهوم؟ أظن أفضل تفسير يقدمه فيلسوف فرنسي معاصر وهو إيمانويل ليفيناس، تقول عنه فرنسا اليوم إنه لو لم يكن لها أية مساهمة في الحضارة والفكر الإنساني عدا الذي قدمه ليفيناس لكفاها فخرا. ليفيناس علم الناس ما تعده بقايا المؤسسة الدينية في أوروبا كفرا، ومفاده إن أتاك صوت من السماء وقال افعل هذا وكان ذلك مخالفا للأخلاق الإنسانية الحميدة، فيجب ألا تفعله أبدا. وهكذا لا يجوز أن يقبل الإنسان القيام بأي تصرف يخالف الأخلاق من مفهوم إنساني حميد (قتل نفس بريئة أو الاعتداء على الأطفال أو النساء مثلا أو الظلم بجميع أشكاله) أيا كان الصوت الذي يأمره بذلك. على الإنسان أن يحاور ومن ثم يرفض هكذا أصوات. ولهذا لا يجوز لأي دين أو مذهب في السويد أن يقدم ما لديه أنه أحسن الحسن. أحسن الحسن هو الخلق الحسن الذي يرى الناس سواسية كأسنان المشط أمام القانون المدني الإنساني. وما على الأديان والمذاهب وأصحابها ورجالاتها إلا تطويع ما لديها لما يراه الدستور السويدي المستند إلى الفكر والمنطق الإنساني الذي أتي به الفلاسفة، بغض النظر عن رضاهم أو عدمه. هذه السياسة أثبتت نجاعتها حتى الآن، حيث على كل الأديان والمذاهب في البلد الالتزام بالقانون المدني الذي يؤوي الكل، ومن ضمنهم الملتزمون والممارسون للدين أو العلمانيون الكارهون له.
إنشرها