Author

مراكز الرعاية الأولية .. من يقلب هرم الخدمة لصالح المواطن؟

|
مختص في التمويل والتنظيم وأكاديمي
[email protected] ترتيب أولويات الصرف على الخدمات الصحية في ظل الميزانية الواعدة في العقد الفائت كان التخبط واضحا بين الصرف على مراكز الرعاية الأولية وبين التركيز على تشييد المزيد من المستشفيات. هذه السياسة الصحية أدت إلى عدم جاهزية مراكز الرعاية الأولية لتقديم خدمة "مناسبة" وعدم كفاءات المستشفيات الحكومية لتقديم الرعاية الصحية المنتظرة منها. فتشتت الميزانيات الصحية - على الرغم من محدوديتها - دون تحقيق رعاية صحية سواء على مستوى الرعاية الأولية أو على مستوى المستشفيات العامة. هذا القرار الخاطئ للأسف قاد إلى فقدان الثقة في مستوى الخدمة المقدمة من مستشفياتنا الحكومية ومراكز الرعاية الصحية على حد السواء. من الملاحظ أننا عند الحديث عن واقعنا الصحي فإننا نقارنه أحيانا بالنظام الصحي البريطاني ومرة بالنموذج الأمريكي وفي مناسبة أخرى نقارنه بالنظام الصحي الألماني. فمثلا النظام الصحي البريطاني يستثمر من أجل تقوية الرعاية الصحية المقدمة عبر طبيب الأسرة. فدور طبيب العائلة ليس مقصورا فقط على تقديم الخدمة العلاجية للمرضى داخل مراكز الرعاية الأولية بل يتجاوزه ليكون مرجعا لسكان الحي في القضايا الصحية التي يواجهونها خلال حياتهم اليومية. فمسمى طبيب الأسرة أو العائلة جاء من كون الطبيب مرتبطا ارتباطا وثيقا بالأسرة أو العائلة. لكن عندما فتحت مراكز الرعاية الأولية لدينا لم يكن مستوى الخدمة المقدمة من قبلها في مستوى التطلعات. لذا كانت النظرة لها كمراكز لتقديم التطعيمات الأولية للأطفال. وأحيانا أخرى كان الهدف من زيادتها لكونها قناة تتم من خلالها طلب التحويل للمستشفيات العامة. فمراكز الرعاية الأولية - في ذهن البعض - ما هي إلا عقبة تمنع الوصول مباشرة للخدمة العلاجية "الحقيقية" من قبل المستشفيات. هذا الشعور تجاه الخدمة المقدمة من قبل مراكز الرعاية الأولية قاد البعض للبحث عن الخدمة العلاجية عبر الصيدليات التجارية والمستشفيات الخاصة. كما أن هذا الشعور أدى إلى زيادة وتكدس قوائم الانتظار في المستشفيات الحكومية. أما الآن وفي ظل ميزانية واعدة وتشييد العديد من مراكز الرعاية الأولية في مختلف مناطق المملكة فإنني أجد أن هذه المرحلة تقتضي منا إعادة الثقة في مستوى الخدمة المقدمة من قبل مراكز الرعاية الأولية بحيث تكون مراكز لتقديم خدمات استشارية وتخصصية شاملة. فمراكز الرعاية الأولية يجب عليها أن تقدم رعاية صحية عبر مجموعة من الأطباء المتخصصين في طب الأسرة والمجتمع والأطفال وغيرها من التخصصات التي يحتاج إليها الحي. فمثلا ووفق إحدى الإحصائيات فإن نسبة السكري في السعودية بين أعمار 30 -70 سنة وصلت إلى 23 في المائة. كما أن هناك 15 في المائة لديهم القابلية لأن يصبح لديهم مرض السكري خلال سنة أو سنتين. أما بالنسبة لارتفاع الضغط فقد بلغت في حدود 25 في المائة. لعل أمراض الضغط والسكري من الهموم الصحية التي تعاني منها الأسر السعودية لكننا لا نجد مراكز الرعاية الأولية تساعد في كيفية التعامل معها. فلا يوجد في مراكز الرعاية الأولية الطبيب القادر على التعامل مع هذه الأمراض خصوصا أنها أمراض مزمنة تتطلب المتابعة المستمرة. كما أن تغلل مرضى السكري والضغط داخل المجتمع السعودي يفرض علينا ضرورة توفير الأطباء المختصين القادرين على التوجيه والمتابعة لهذه الشريحة. إنه لمن المؤسف أن يوجد انفصام بين ما نحتاج إليه من تخصصات طبية وبين تخصصات أطبائنا. فبينما نستثمر في تأهيل أطباء لتخصصات دقيقة جدا لا نستثمر في تلبية احتياج البلد من تخصصات حيوية وتلبي احتياج الشريحة الأكبر من المجتمع كطب الأسرة والمجتمع والأطفال والطوارئ وغيرها. للأسف أننا نرضخ دائما لطلب وغرور أطبائنا للحصول على تخصصات دقيقة ليس لها الأولوية في هذه المرحلة. فالهرم لدينا معكوس ونحتاج إلى من يجعله متطابقا بين احتياجنا كمجتمع وتخصصات أطبائنا. كما ينبغي التأكد من توافر العلاج الطبي في صيدليات مراكز الرعاية الأولية ورفع مستوى صيانة المباني والأجهزة الطبية، فنحن للأسف نستثمر في شراء الأجهزة لكننا لا نستثمر بالمقدار نفسه من أجل التأكد من جاهزيتها. في الجانب الآخر يجب أن نتطلع إلى التخطيط المستقبلي من أجل توسع خدمات مراكز الرعاية الأولية وليس فقط أعدادها لتتمكن من تقديم خدمات أكثر شمولية ولتكون بعضها مستقبلا مراكز تجرى بها العمليات الصغيرة بحيث تكون مراكز لجراحة عمليات اليوم الواحد. لا شك أن استرجاع الثقة بمستوى الخدمة المقدمة من قبل هذه المراكز يساعد على الحد من الازدحام الكبير وطلب الخدمة عبر المستشفيات العامة أو التخصصية. إنني على ثقة أن تفعيل دور مراكز الرعاية الأولية لتقدم رعاية صحية شمولية تجنبنا عناء التوسع في زيادة عدد المستشفيات. كما أن هذه المراكز ستساعد لإعطاء رؤية أكثر وضوحا لطبيعة الأمراض التي نحتاج إلى التوسع في خدماتها في مستشفياتنا مستقبلا. فمما هو معلوم أن تكلفة الخدمة العلاجية المقدمة من قبل مراكز الرعاية الأولية أقل من مثيلاتها والتي تقدم عبر المستشفيات. كما أن قياس إنتاجية مراكز الرعاية الأولية يجب ألا يكون فقط بعدد الزيارات ولكن بمخرجات تلك الزيارات والتي لن تتحقق دون قياس مدى جودة الخدمة المقدمة ودورها في تقليل قوائم الانتظار في المستشفيات الحكومية. لا شك أن تبني سياسة الإنشاء وزيادة عدد المستشفيات يعتبر أكثر جاذبيه من تطوير مستوى الخدمات الصحية لكون الأول رقما ملموسا Tangible Services بينما الخيار الثاني ليس له واقع ملموس لذا نجد أن تطوير مستوى الخدمة ربما لا يكون له رونق تشيد مزيدا من المستشفيات. وللحديث بقية.
إنشرها