Author

الوظيفة عبودية من نوع جديد

|
ذكرت في مقال الأسبوع الماضي أن الإنسان لم يتحرر بعد من العبودية وبينت كيف انتقل الإنسان من عبودية الإنسان إلى عبودية الأرض، وأصبح يطلق على الفلاحين في عصر الإقطاع صفة الأقنان (أي عبيد الأرض) إلىaد في عصر الرأسمالية، وهي عبودية الوظيفة التي يعيشها الناس في كل الدول والأمصار هذه الأيام. قبل أن أبدأ أريد أن أقف وقفة حول العلاقة بين العبودية والطبقية، فالبعض يظنني عندما أتكلم عن العبودية أنني أعني الطبقية، وكأن الأولى تعني الثانية، لكن هذا شيء وذاك شيء آخر. فالطبقية ظاهرة بشرية طبيعية قبلت بها الكتب السماوية، والأعراف البشرية، والقيم الإنسانية باعتبار أن عجلة الحياة لن تسير من دونها. وطرحت موضوع الطبقية في مقالات سابقة بينت فيها أن الطبقية ظاهرة طبيعية تقبلها المجتمعات، فهناك الفقير وهناك الغني وهناك عريق النسب وهناك وضيعه، طبقات بعضها فوق بعض وإن اختلفت أسماؤها وتباينت بيئاتها، وقد قبل الناس أن يكونوا مختلفين في المعايش كما هم مختلفون في اللون والطول والهيئة. أما العبودية فتختلف عن كل هذا، بل البعض يراها دخيلة على الحضارات الإنسانية رغم قدمها. وإن كانت العبودية بالفعل حاضرة منذ الأزل إلا أنها مقيتة وبغيضة ويسعى الناس إلى محاربتها والتمرد عليها والتخلص منها لأن البشر بطبيعتهم يعشقون الحرية، ويقاس تطور المجتمعات بمدى مقدرتها على منح الحريات للأفراد والجماعات، ولا أريد أن أسهب كثيرا في هذا حتى يبقى لدينا مجال لصلب الموضوع. نعود لموضوع المقال فنقول إن الإنسان بعد أن كان عبدا للإنسان في عصر العبودية، وبعد أن كان عبدا للأرض في عصر الإقطاع أصبح عبدا للوظيفة في عصر الرأسمالية. وبعد أن كان الناس ينقسمون إلى سادة وعبيد في عصر العبودية المطلقة، وإلى ملوك ونبلاء وفلاحين في عصر الإقطاع أصبحوا ينقسمون في عصر الرأسمالية إلى قسمين. الأول هم أرباب الأموال والملاك وأصحاب الجاه والثراء، والقسم الآخر هم الموظفون الكادحون العاملون، وبهذا تغيرت التركيبة وبقيت العبودية، لكنها عبودية من نوع جديد. والفرق بين العبودية البائدة والعبودية الحاضرة أن الناس هناك كانوا يرفضون العبودية ويبغضونها إلا أنهم ارتضوا أن يكونوا عبيدا في عصر الرأسمالية لأنهم لا يعلمون أنهم يعملون كالعبيد المسخرين لأسباب نبينها بعد قليل. انظر إلى حشود الموظفين كيف تغدو وكيف تروح وكيف تعمل. فالموظف يقضي أثمن وقته ويبذل جل طاقته في أداء عمله يتقاضى في نهاية المدة (أسبوعيا أو شهريا) مبلغا نقديا يصرفه على أكله وشربه ومقتنياته ولا يكفيه أكثر من ذلك فيظل يعمل ويعمل من أجل أن يأكل ويشرب دون ادخار، دون استثمار، ودون شعور بالملكية الحقيقية. ورغم ظهور مصطلحات مالية في عصر الرأسمالية كالادخار والاستثمار إلا أن الموظف ليس له نصيب منها، فجميع النماذج والنظريات التي أصلت في مجال الأعمال والمال تخدم الشركات وأرباب الأموال وتٌغيِب الفرد عن الإفادة منها طوعا أو كرها. فلا يوجد نموذج واضح يبين للموظف كيف يستثمر أمواله، ولا توجد نظريات تبين للفرد كيف يدير أمواله الشخصية، وكل ما تم فعله في هذا المجال محاولات خجولة ما تلبث أن تظهر حتى يخمد فتيلها وينساها الناس بين عشية وضحاها. وعندما ينوي الفرد (الموظف) أن يحدد له مصدر دخل آخر غير مصدر دخله من الوظيفة (رافد آخر يخفف عنه تكاليف الحياة الباهظة) تتابعه العيون، وتلوكه الألسنة، وتحاصره اللوائح، وتدور حوله الدوائر فليس من حقه أن يكون له دخل آخر غير دخل الوظيفة وإن فعل وتمرد على لوائح الشركات والمؤسسات وأرباب الأموال يوصف بالخيانة تارة وتحاك ضده المؤامرات تارة أخرى ويُسأل من أين لك هذا؟ وإن لم تستطع اللوائح أن تقيد حركته وتهذب سلوكه يُغير قانون العمل من أجل أن تمتص الشركات والمؤسسات جهد الموظف بالكامل حتى يعود إلى بيته منهكا محبطا يخلد إلى النوم حتى اليوم الثاني، عندها يدرك أن من مصلحته أن يكون جهده وولاؤه وانتماؤه وعبادته لمنظمته كأنه لم يخلق إلا أن من أجلها. ترى ما الفرق بين كل هذا وبين ما يعمله النبلاء إبان عصر الإقطاع مع أقنان الأرض (الفلاحين) الذين يسخرونهم للعمل في الفلاحة ويكفل لهم طعامهم وشرابهم؟ أليست صورة الموظفين في عصر الرأسمالية لا تختلف كثيرا عن الفلاحين (أقنان الأرض) أبناء عصر الإقطاع الذين يكدحون من أجل طعامهم وشرابهم. وقد كان يستعان بالكنيسة في تلك الأيام من أجل كبح جماح الثورات على النبلاء وتذكرهم أن صبرهم وبلاءهم وكدهم ليس له جزاء إلا الجنة التي تنتظرهم في الآخرة. ورجال الدين وأهل القانون في عهد الرأسمالية يؤدون ما تؤديه الكنيسة في تلك الأيام فنراهم يحكمون الخناق على الموظف المسكين ويذكرون الفرد (الموظف) بالأمانة الملقاة على عاتقه وبأخلاقيات المهنة وسلوكيات العمل، ويرون من يجمع مع الوظيفة عملا آخر، أو يخرج من عمله لقضاء بعض حاجياته، أنه خارج عن القانون ومخل بالأمانة رغم أنه يؤدي عمله الرسمي للشركة وأرباب الأموال على أكمل وجه، وكل ما يفعله لا يتعدى بذل مجهود بعد نهاية العمل الرسمي من أجل جلب مزيد من المال يسد به رمقه ويعول به أهله، لكنه الخوف من أن يتحرر الموظف من أغلال الوظيفة فيتعلم أسرار اللعبة. هذه بعض ملامح الوظيفة في عصر العبودية الجديد أردت أن أعرض طرفا منها عليكم، وهناك المزيد أتركه لك أيها القارئ الكريم. فكر في وظيفتك، وأين وصلت فيها؟ وهل أعطتك مثلما أخذت منك؟ عندها ستجد الكثير والكثير مما يستحق التوقف عنده وستعرف الحقيقة وهي أنك بالفعل عبد باسم أنيق (موظف).
إنشرها