Author

هل الوظيفة شكل من أشكال العبودية؟

|
يعتقد الإنسان أنه قد تخلص من العبودية، فبعد أن كان عبدا أسيرا يباع ويشترى كالسلعة أصبح حرا طليقا وله الحق في الملكية، والبيع، والشراء، والادخار والاستثمار، يأكل ما يشاء ويسافر أنى شاء. وتوسعت الحريات فأصبح الفرد ينتخب ويحدد من يحكمه، ومن لم يحقق مبتغاه أطاح به بين عشية وضحاها. أما أنا فأرى عكس ذلك تماما، وأرى أن الإنسان ما زال عبدا يقيد بالأغلال ويعمل مسخرا رغم كل الحريات التي أطلقت والتي تتباهى بها الحضارة الإنسانية. وحتى أبين وجهة نظري سأستعرض المراحل التي مر بها الإنسان منذ عصر العبودية إلى الرأسمالية المطلقة مرورا بعصر الإقطاع وفقا للمفهوم الاقتصادي والسياسي المعاصر، كما بينها جاسم سلطان في كتابه "خطواتك الأولى نحو فهم الاقتصاد". أول مرحلة كما يراها أهل الاقتصاد الغربي المعاصر هي مرحلة العبودية المطلقة، وانقسم الناس إبان تلك الحقبة إلى قسمين لا ثالث لهما سادة وعبيد. والعبيد هم أولئك النوع من البشر الذين كانوا يؤسرون عبر الحروب أو يقاضون من أجل سداد دين أو يباعون في الأسواق رغم أنوفهم أو يكرهون على العمل لمصلحة أسيادهم. وبهذا فقد كان الإنسان في تلك الحقبة عبارة عن سلعة تباع وتشترى، لذا سمى أهل الاقتصاد ذلك العصر بعصر العبودية. ثم تغيرت تركيبة السيد والعبد وحل محلها الملاك والفلاحون. فقد كان الملك يوزع الأرض على النبلاء على هيئة إقطاعيات، وكانت الأرض بمن فيها من أنفس وبشر وشجر وحجر ملكا للنبيل يورثها لمن يشاء. ويتمثل دور الفلاح في العمل والدفاع عن الإقطاعيات ولا يتقاضى أجرا نقديا، لكن له الحق في الطعام والشراب. أما النبلاء فقد كانوا يسخرون إقطاعياتهم بما فيها من مال وبشر لخدمة الملك في حروبه ودعم موارد الدولة. ولم تغب الكنيسة عن هذه الأحداث فقد كانت تأخذ من الناس الضرائب وتبيع لهم "صكوك غفران" مقابل وعد بإدخالهم الجنة. ورغم أن التركيبة اختلفت عن عصر العبودية إلا أن العبودية ذاتها ما زالت حاضرة، لكن بشكل مختلف، فقد كان الإنسان في عصر العبودية عبدا بالشراء، أما في عصر الإقطاعيات فقد كان عبدا للأرض، وكان يطلق عليهم أقنان الأرض، أي عبيد الأرض، وهنا يتضح أن الذي تغير هو الاسم فقط. ولم يبق الوضع على هذا الحال، فقد حدثت تغيرات في القرن الخامس عشر الميلادي عندما تم اكتشاف الأمريكتين وتولدت طرق جديدة للتجارة فبدأت السفن الضخمة تتدفق على الموانئ الأوروبية، وكانت الموانئ تحتاج إلى حمالين وحدادين ونجارين وتقديم الخدمات الوسيطة إلى السفن القادمة من العالم الجديد فتحولت الموانئ الأوروبية إلى مدن، وتحول الفلاح الذي كان يعمل لدى النبيل بما يأكله تحول من فلاح إلى عامل له أجر، ثم تحول بعد ذلك إلى تاجر بعد أن كان يعمل عبدا للأرض. وهنا تقلصت الإقطاعيات بسبب فرار الفلاحين منها للعمل في الموانئ كعمال وموظفين يتقاضون أجورا، وتحرر الناس من كونهم عبيدا للأرض إلى عمال وموظفين، وتحولت الأرض من ملك ومورد لا ينضب إلى سلعة تباع وتشترى. وهنا أصبحت جميع عوامل الإنتاج حرة (الأرض والعامل ورأس المال). وفي ظل هذه التحولات نشأت طبقة جديدة يطلق عليها الطبقة البرجوازية، وهي الطبقة الوسطى التي تفصل بين شريحة الملك والنبلاء من جهة وطبقة الفلاحين من جهة أخرى. ويمثل هذه الطبقة أبناء التجار والعمال في المدن الذين كان أبناؤهم بالأمس فلاحين (أقنان الأرض) في عصر الإقطاعيات وكان أجدادهم عبيدا بالشراء في عصر العبودية. وبدأ النبلاء يتهددهم الفقر بسبب فرار الفلاحين من إقطاعياتهم إلى المدن على السواحل، كما أن الملك لم يصبح يعتمد عليهم كثيرا في حروبه وزيادة موارد الدولة، بل أصبح يعتمد على الطبقة البرجوازية. وهنا بدأ عصر جديد ونظرة اقتصادية مختلفة لم يكن مخططا لها في الأصل. ثم تشكل عصر السوق وأطلقت الملكيات الفردية وبدأ عصر الرأسمالية تدريجيا من القرن السادس عشر، الذي يتكون من جانبين. الأول هو الجانب السياسي الذي يدعو إلى الليبرالية والحرية والقوميات الدينية وتقليص دور الكنيسة، حتى تراضى الناس بالديمقراطية وأصبحوا يتشدقون بها في الحكم والملكية وإدارة الأعمال والعلاقات الدولية. والجانب الآخر هو الجانب الاقتصادي - وهو الذي يهمنا هنا - الذي ارتكز إلى تنمية الملكية الفردية والسوق الحر، وأصبح الإنسان يرى أنه يتمتع بالحرية ليس فقط في نفسه، بل أصبح له الحق في البيع والشراء، ونشأت المصارف والمؤسسات المالية وشركات التمويل والتأمين، وظهرت مصطلحات لم يعهدها الناس من قبل مثل كلمة ادخار واستثمار، وازدهرت التجارة وتنوعت وتعقدت وأصبحت لها نظريات ونماذج ومدارس تفك رموزها. ورغم كل هذا الازدهار الذي حققته الرأسمالية، التي لا تعد حكرا على أوروبا وأمريكا، بل تسود العالم بأسره الآن، إلا أن العبودية ما زالت قائمة، وإن كان الإنسان يظن أنه قد تخلص منها. ففي عصر الرأسمالية ظهرت تركيبة جديدة تختلف في الشكل فقط عن سابقتها. فبعد أن كان البشر ينقسمون إلى سادة وعبيد في عصر العبودية، وإلى ملوك ونبلاء وفلاحين في عصر الإقطاع، أصبح الناس ينقسمون اليوم إلى قسمين، الأول يطلق عليهم أرباب الأموال وهم الملاك وأصحاب الشركات وأهل الثراء، والقسم الثاني يطلق عليهم الموظفون. وبهذا فإن العبودية لم تنته، بل اختلف شكلها، فالإنسان بعد أن كان عبدا بالشراء في عصر العبودية وعبدا للأرض في عصر الإقطاع، أصبح عبدا للوظيفة في عصر الرأسمالية، فالوظيفة التي يسعى إليها الناس هذه الأيام شكل من أشكال العبودية، فيها من الأغلال ومن القيود ما يجعلنا نرى أنها تمثل العبودية في أبشع صورها. فكر في وظيفتك وكيف تسلب منك أثمن وقتك وأجمل سني عمرك وترمي لك بالفتات، وعلاقة الوظيفة بالعبودية تحتاج إلى مزيد من الإيضاح، لعلنا نفصل فيه في مناسبة قادمة - إن شاء الله.
إنشرها