Author

الشاب.. يتقاعد

|
يحدث الموت فجأة ولا نستطيع توقعه، لكن التخطيط له ممكن، بل هو مطلوب. تُصور إحدى الأفكار الموت وكأنه يحدث بصفة مستمرة ودائمة قبل أن يقع فعليا، وهذا عائدٌ لحتميته. كل أمر حتمي، يحدث فعليا بمجرد التأكد من حتميته. كذلك التقاعد، فهو لا يبدأ من لحظة ترك الوظيفة أو بخطاب طي القيد، إنما قبل ذلك بكثير. يبدأ التقاعد من اللحظة التي نتخذ فيها قراراتنا بخصوصه. واليوم لا يشبه التقاعد الموت، إنما هو للحياة أقرب أو هو الحياة بعينها. رحلة التقاعد هي حياة جديدة يبدؤها الفرد قبل أن يبدأها فعلا، وهو يملك فرصة التخطيط لها والاستمتاع بها مبكراً، بل قد تكون له ذروة عطائه. يقرر الموظف المستجد جزءا من طبيعة حياته التقاعدية في اللحظة نفسها التي يوقع فيها عقد عمله الجديد. وهكذا، يغير الشخص الذي يخطط لتقاعده مبكرا من طبيعة حياته التقاعدية، ويعززها بالخيارات والفرص. في حين يسهم من يتجاهل هذا الجزء المهم من حياته في جعلها أسوأ – له ولمن حوله- أو يتركها في حالة ضبابية غير معلومة يسميها الظروف، وهذه مخاطرة كبيرة، كبيرة جداً. بسبب التطور الحضاري - والصحي تحديداً - يزيد معدل أعمارنا باستمرار، وقد لا تتغير أنظمة العمل المدني بالسرعة نفسها. وهذا يعني حياة أطول بعد التقاعد. وبنظرة بسيطة إلى التركيبة السكانية لدينا، نجد أن مشكلات البطالة ستتحول لدى الجيل نفسه إلى تحديات في التقاعد – إضافةً إلى التحديات التي يواجهها المتقاعدون حاليا. وذلك لأن الأعداد تتزايد والخيارات تقل، بينما التغييرات الهيكلية والنظامية تظل في حالة أقرب للجمود .. ما الحل إذن؟ الحلول تبدأ دائما من الفرد، سواء دعمته البيئة المحيطة من حوله أو احتاجت إلى دعمه هو. يجب على الشاب والفتاة التفكير والتخطيط للمستقبل البعيد، والنظر في الخيارات المتاحة والخيارات التي يمكن أن تصنع - ليس من العدم - إنما من حيث لا نراها. يظن البعض أن برامج التأمينات الاجتماعية ومعاشات التقاعد ستضع كل الحلول لمرحلة التقاعد. وهذا بالطبع يجانب الصواب، فهذه البرامج تعمل كشبكة حماية لمستقبل الأفراد والأسر، وهي لا تقدم إلا الحد الأدنى من الروافد المالية المعقولة تصوراً لزمن مستقبلي. يمثل دخل التأمينات الاجتماعية النظامي للمتقاعد الأمريكي في المتوسط ما يعادل 36 في المائة فقط من إجمالي مصادر دخله خلال مرحلة التقاعد، وتمثل النسبة الباقية عوائد وأرباح ومداخيل قام بالتخطيط لها مسبقا. إضافة إلى ذلك، لا تزال برامج التأمينات والتقاعد لدينا في مرحلة مبكرة فهي لم تُجرب على أكثر من جيل بعد. ديناميكية العطاء في هذه البرامج قابلة للشك، عطفاً على تحديات التضخم الاقتصادية والتغييرات الاجتماعية المتسارعة. وعلى الرغم من أننا نأمل أن تصبح هذه البرامج أكثر قوة وتحقق أهدافها الرئيسة إلا أن الشاب، وكل فرد تقريبا، مسؤول عن النظر في البدائل التقاعدية المكملة لها، وتقييمها وخوضها في الوقت المناسب بدلا من بذل الجهود والطاقات في النقاش فيما هو حاصل فعلا. مثلا، يجب ألا نحارب لنقد أو تطوير نظام التأمينات فقط، بل نحارب لصنع خيارات أخرى تكون موازية له خلال الحياة التقاعدية. أول القرارات المتعلقة بهذه المرحلة المهمة يكمن في تحسين مستوى الدخل الحالي. من المنطقي أن تصبح خيارات التقاعد أفضل إذا كان الحاضر يتحسن باستمرار. زيادة الدخل الشهري على سبيل المثال – أو التحكم في الأقساط والمصاريف- يعطي فرصة أكبر للادخار والتخطيط. بعد ذلك يأتي قرار آخر مهم، وهو قرار اختيار التوقيت المناسب للتقاعد. التقاعد الإجباري في عمر الستين ليس إلا خطا وهميا للعطاء، وللفرد اختيار النقطة المناسبة لتبادل أدوار العطاء والراحة وتحديد القنوات المناسبة لذلك. وهذا لا يحدث كقرار التقاعد المبكر المفاجئ الذي يحدث أحيانا في بعض المؤسسات الوطنية. لكن من التخطيط الجيد للتقاعد أن يحدد الفرد موعد تقاعده المبكر في موعد مبكر. وهذا عرض خاص للشباب الذين يرون فكرة التقاعد تخص شيئا بعيدا جدا جدا، وهي ليست كذلك. يخطط بعض الموظفين في الغرب لما قد يسمى التقاعد المتكرر، حيث يخطط الشخص للتقاعد في وقت مبكر والعمل على مصدر دخل آخر، وربما يتقاعد مرة أخرى ويعمل من جديد ليحصل على دخل ثالث وهكذا. لقد رأيت لدينا أخيرا حالات متنوعة عدة لمتقاعدين يعملون في وظائف جيدة، وهذا استغلال جيد للظروف، لكنه لم يكن بالتخطيط المبكر، التخطيط المبكر لوضعيات كهذه يعظم بلا شك من خيارات الفرد في هذه المرحلة المهمة. وبطبيعة الحال، وكما تنطبق هذه القضية على الشاب فهي تنطبق على الفتاة كذلك، بل إن إحدى الدراسات أشارت إلى أن النساء أكثر قلقا حيال مستقبلهن، وهن كذلك أقل إجادة في التخطيط له. من يخطط للتقاعد لا يحاول ضمان العيش على الكفاف أو أن يضمن لأبنائه حياة زاهدة، كلا، من يخطط للتقاعد يحاول المحافظة على أسلوب معيشته نفسه الذي يحظى به فعلا. وهذه من الحقائق التي تصبح صعبة جدا إذا تم اكتشافها في وقت متأخر. يبدأ الشاب في تحديد ملامح تقاعده مبكرا، ويسهم استثماره في نفسه ثقافيا ومهاريا في تقاعده من سنوات تعليمه الأولى. وليحسن من طريقة حياته وحياة أسرته يجب ألا ينتظر الوقت الذي يظنه مناسباً ولا أن يترقب إصلاحات الآخرين، بل عليه العمل من اللحظة التي يعي فيها هذه الحقائق.
إنشرها