Author

فرص التميّز.. بين الواقع والتغير

|
من الصعب أن يذهب شخص ما إلى الولايات المتحدة، على سبيل المثال، ويطلب من إحدى الجامعات أن يصبح اكتوارياً، ثم يعود وهو اكتواري جاهز لسد النقص الموجود في الوظائف الاكتوارية في سوق العمل. كلا، المسألة تختلف قليلا. الاكتواري بالمناسبة شخص يحترف تلك المهنة التي تختص بتقييم احتمالات الموت والسرقة والمخاطر عن طريق استخدام التطبيقات الإحصائية والمعرفة الجيدة بالسلوكيات والعمل التجاري، وهي مهنة محورية ذات أثر مباشر في أسواق الخدمات والصناعات، خصوصا في مجالي التأمين والاستثمار. من جانب آخر، لا يختلف الوضع بالنسبة للسكرتير كثيرا، فمجرد الحصول على دبلوم في السكرتارية لن يجعل حامل هذا الدبلوم على منصة الانطلاق في احتراف العمل المكتبي. وهذا ظاهرٌ في شكوى حملة الدبلوم الذين لم يكسبوا بعد ثقة القطاع الخاص- في بعض المجالات تحديدا. الطريق نحو النتيجة الوظيفية المتميزة يكون عبر الاستثمار في البناء الشخصي للمهارات والخبرات مع وجود رؤية واضحة تحدد التخصص أو المجال الذي يستوعب التميز، سواء للشخص نفسه أو البيئة التي سيعمل فيها. هذه النتيجة الوظيفية الإيجابية ليست نتيجة شخصية فقط، بل إضافة معتبرة للمنشأة والاقتصاد والمجتمع. التأهيل الأكاديمي في حد ذاته لا يكفي للنهوض بأي عمل، فكيف إذا كان هذا التأهيل متدني الجودة أو يتأثر بثقافة اجتماعية سلبية. حل هذا النوع من الإخفاقات يتوزع بين الشخص والمنشأة والجهة التي تقوم على تنظيم المهنة والكثير من مؤسسات المجتمع. لكن بما أن هذه المنظومة تبدأ من الأفراد، يجب ألا ينتظر أحد تغيّر الأمور من حوله، بل عليه أن يبدأ وله فضل ومكاسب المبادرة. عليه أن يبدأ في البناء المباشر وفق خطة مهنية استراتيجية، وإن لم يعرف نقطة البداية أو طريقة التنفيذ، لا منفذ له من الاستشارة، فالخسائر المتوقعة من عملية التقاعس التي قد تحصل هنا لا تحتمل. والحمد لله، بدأ مستشارو الموارد البشرية الشباب في الظهور، وبعضهم مستعد لتقديم المساعدة بلا مقابل. أشارت مجموعة من التقارير والمقابلات مع عدد من خبراء قطاع التأمين في صحيفة ''الاقتصادية'' بتاريخ 23 نيسان (أبريل) الماضي أن إحدى أكبر مشكلات القطاع التي تؤرقهم هي نقص العنصر البشري، خصوصا المتخصص، وتحديدا الوظائف المتعلقة بصناعة التأمين نفسها ومنها الوظائف الاكتوارية. في الولايات المتحدة، أعلن موقع الوظائف المشهور careercast.com أخيرا قائمته السنوية لأفضل الوظائف، حيث احتلت وظيفة ''اكتواري'' المركز الأول، تليها مجموعة من الوظائف الطبية والهندسية والإدارية. على الاكتواري أن يحوز شهادة ذات علاقة بمجال عمله كالمحاسبة أو الرياضيات أو الهندسة الصناعية ويدعمها بزمالة وخبرة مهنية كي يصبح منفردا بإمكاناته على مستوى المنشأة ''ومحليا، سيكون منفردا ومتميزا على مستوى السوق كذلك''. هذا الأمر يشمل بالضرورة الكثير من المجالات الأخرى التي تدر ذهبا وظيفيا إذا أمسك بها الشخص بالطريقة المثلى، بما فيها الأعمال المكتبية والسكرتارية. قابلت مرة سكرتيرا سعوديا مثابرا ولطيفا، كان زملاؤه في العمل يتحدثون معه وكأنه ''ورطان'' في هذه الوظيفة التعيسة. تحدثت معه فذكر لي أنه على الرغم من بساطتها -وسخرية الآخرين- إلا أنه يستمتع بشدة بعمله ومساعدته لمن حوله. شعرت بأنني أتعلم منه، خصوصا حين أرى تقبله برحابة صدر مديريه الأجانب، حيث ينظر الباقون له كموظف مضطر أن يصبر على حظه النكد والمَهين! تحدثنا عن العمل المكتبي الاحترافي وكيفية تمكنه من اللغة والأدوات التقنية ومهارات التنظيم والانضباط. لم يحتج الأمر إلى كثير من السنوات كي يصبح هذا السكرتير مشرفا للشؤون الإدارية وقائدا لكل الإداريين الذين كانوا يرمقونه بنظرات السخرية والرأفة أحيانا. التمييز الوظيفي فرصة نادرة يسهل -اليوم- الحصول عليها! نظرة بسيطة لواقع التغير الاقتصادي والاجتماعي تكشف لنا العديد من الفرص. انضمام المملكة إلى أي منظومة دولية في أي مجال يعني فرصة للتعلم والتميز. على سبيل المثال، أعلن أخيرا عن مشروع لتطبيق معايير المحاسبة الدولية خلال خمس سنوات، إذن هنا فرصة واضحة للمحاسبين والمحللين الماليين في تعلم خفايا هذه المعايير، فهي طريقهم للتميز. وإلا، سيكونون مضطرين في المستقبل القريب للقيام بدور الوسيط بين صناع القرار والأجنبي صاحب ''المعرفة''. هناك الكثير من الفرص التي تشابه هذا المثال، معايير تقييس المنتجات ومتطلبات الاستدامة البيئية والمعرفة العالمية في مشاريع الطاقة المتجددة بل حتى الإدراك الجيد بالأنظمة والسلوكيات المحلية. لا يختلف الأمر كثيرا في الوظائف الفنية أو العلمية. نجد مثلا أن الكثير من خريجي تخصصات الكيمياء الحيوية يتحمسون لتخصصهم، لكنهم قد ينظرون لتخصص المعلومات الحيوية Bio-informatics كتخصص مستقل أو صعب نوعا ما. في حين أن خريج الكيمياء الحيوية أو الأحياء الطبية الملم بالتقنيات الإحصائية المستخدمة في قياس وتحليل المعلومات الحيوية يفتح لنفسه أبواب التميز الوظيفي، ويستطيع بقدراته الشخصية أن يتميز في هذا الجانب الفني المهم جدا لمراكز الأبحاث التي تنشأ باستمرار. لا توجد اليوم أي حدود للتميز، من مهن السلامة والصحة والتعليم والنقل حتى المهن الإبداعية كالرسم والتصميم. نحن اليوم مقبلون على الكثير من التغيرات وفي حاجة قوية إلى كثير من المعرفة ولن نواكب ذلك إلا بالإمكانات البشرية المؤهلة. يحصد الكثير من الشباب نجاحات وظيفية لافتة، وهذه النسبة ''المميزة'' في ازدياد. لكن، لن يمر الكثير من الوقت قبل أن يصبح من ينضم إلى هؤلاء الناجحين مجرد شخص بإمكانات وظيفية معتبرة ''وليست مميزة''، لأن المميزين حينها سيكونون كُثُرا. ستقل حين ذلك فرصة من لا يتسلح بالحد الأدنى من التأهيل المهني الكافي، الذي يرتفع حده الأدنى باستمرار. ستتحول المميزات التأهيلية إلى متطلبات ضرورية لا بد منها، من اللغة ومهارات التواصل الفاعل إلى الخبرة في العمل الاجتماعي والرصيد الإبداعي الشخصي. وحينها سيتعلم الجميع، إن لم يكن بالمبادرة، بالواقع الذي يفرض نفسه.
إنشرها