Author

التكيف مع توطين الوظائف

|
سبق أن أشرت في أكثر من مقال عن قضايا سوق العمل، إلى أن قضية العمل والبطالة ستكون أكثر الملفات تحدياً بالنسبة للمملكة وللخليج بشكل عام خلال الأعوام المقبلة. والتحدي الذي تواجهه المملكة في هذا الجانب لا يعود إلى عدم قدرة الاقتصاد على خلق وظائف جديدة، لكن إلى الاختلالات الكبيرة في سوق العمل من ناحية، وإلى الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد - خصوصاً جانب المنافسة والتشريعات المتعلقة بها - من ناحية أخرى. لذلك، فإن الهم الأول كان توافر الإرادة الجادة في التعامل مع قضايا العمل والتوظف كإحدى أهم أولويات الاقتصاد السعودي، وهو ما توافر مع الدعم الذي تقدمه القيادة في هذا المجال. المشكلة التي تمثل عائقاً في كل مرحلة من مراحل هذا الملف الشائك، هي طريقة التعاطي مع هذا الملف من قبل القطاع الخاص، وعدم توافر الحد الأدنى من الرغبة في التعامل معه بشكل جاد، على الرغم من الآثار السلبية الاجتماعية والأمنية والاقتصادية التي نواجهها بسبب التسويف المستمر في التعامل مع هذا الملف. من المعروف أن أي تغيير في التشريعات ينتج عنه مستفيدون من هذه التشريعات، وآخرون خاسرون جراء تطبيقها. لكن جدوى هذه التشريعات واتخاذ القرار بشأن تبنيها لا يعتمد على التوزيع للفوائد والخسائر على المستوى الفردي أو القطاعي في المجتمع، لكنه يعتمد على الفوائد الكلية التي يجنيها المجتمع والاقتصاد على مستوى الدولة. وعندما اتخذت المملكة قرارها بالاعتماد على العمالة الأجنبية واستقدامها في أولى مراحل التنمية التي مرت بها هذه البلاد - حفظها الله، كانت الفوائد التي سيجنيها المجتمع والاقتصاد كبيرة وتفوق بشكل كبير الخسائر التي سنتكبدها جراء ذلك، ما شجع على المضي قدماً في الاستقدام للعمالة الأجنبية من مختلف دول العالم. المشكلة التي لم يتنبه لها، أو قد تكون أغفلت، هي الآثار السلبية لذلك في النموذج الاقتصادي للمملكة، وفي إنتاجية المواطن، وفي المظاهر الاجتماعية المختلفة، فأصبح الأجنبي مستشاراً أو عاملاً أو سائقاً أو عاملة منزلية جزءاً أساسياً منها. الآن أصبح الجميع مقتنعاً بأن التكلفة على الاقتصاد والمجتمع جراء هذا النموذج الاقتصادي المشوه المعتمد على العمالة الأجنبية أصبحت تفوق بشكل كبير العوائد من الاستمرار في ذلك. هذا لا يعني بأي حال التخلص من العمالة الأجنبية، أو شن حملة عليها، وعدم الاستفادة منها في سد فجوة الطلب على العمالة. لكن المهم ألا يكون النموذج الاقتصادي في مجمله معتمداً بشكل أساسي على عمالة أجنبية بتكلفة مستوردة من الخارج. القضية الآن لم تعد قضية أولوية المواطن بالتوظيف في بلده من عدمها، لكن القضية الآن يجب أن تتعدى ذلك إلى عملية التكيف مع عملية توظيف المواطن، سواءً من القطاع الخاص أو من المواطنين، أو حتى من القطاع العام نفسه. يجب أن نقبل أن يكون المواطن هو من يقدم الخدمة سواءً في المحل أو المكتب أو المصنع أو في أي مكان، ويجب أن نقتنع وأن نتكيف مع اختلاف الظروف التي تحيط بتوظيف السعودي عن الظروف التي تحيط بتوظيف الأجنبي. إذا لم يستطع المجتمع بجميع أطيافه التكيف مع هذه الحقيقة، فإن ذلك سيكن نذيرا سيئا تجاه تنمية عرجاء، لن يستفيد منها أبناؤها، بل ستكون موجهة للخارج. من الممكن أن يكون هناك حوار حول جدية المواطن أو إنتاجيته، لكن لا يمكن استخدام ذلك لتعطيل حقه في التوظيف في انتظار تغيير هذه الظروف التي لم يكن وحده مسؤولا عنها. هذه الأمور نتاج جوانب عدة، بما فيها التعليم والثقافة في المجتمع، ومنظومة القيم بشكل عام، ومعالجتها تتم بالتعامل معها بشكل مباشر، لا باستخدامها للمحافظة على مصالح فردية لفئة محدودة من الأشخاص على حساب المجتمع والاقتصاد ككل.
إنشرها