Author

الصحافة الورقية في خضم التطورات التكنولوجية

|
في الأسبوع الماضي كنت على طاولة واحدة مع الدكتور مدنى علاقي والدكتور غازي مدني فى مناسبة عزيزة علينا جميعاً، وعلى الطاولة طرح الدكتور مدني قضية من القضايا المثارة بقوة في الأوساط الصحافية، وهي قضية المنافسة بين الصحافة الورقية والصحافة الإلكترونية، وقال الدكتور مدنى إنه قرأ للدكتور هاشم عبده هاشم مقالاً يطالب فيه الصحافة الورقية بضرورة أن تهتم بأوضاعها حتى تستطيع أن تنافس الصحافة الإلكترونية، ومن جهتي عقبت على كلام الدكتور هاشم وقلت: أعرف في صديقنا وزميلنا الدكتور هاشم عبده هاشم أنه يقرأ المستقبل برؤية متقدمة، وهو من الكتاب القلائل الذين يستشرفون المستقبل ويتوقعون أحداثه، وكثيراً ما تصيب توقعاته وتخميناته كبد الحقيقة. ولكن الاستمرار في وضع الصحافة الورقية للمقارنة بالصحافة الإلكترونية لم يعد مطروحاً في هذه الأيام، والتطورات في عالم النشر، وبالذات في الدول المتقدمة لم تعد تطرح الصحافة الورقية أمام الصحافة الإلكترونية، أي أنه لا مجال الآن للمنافسة بين الصحافة الإلكترونية والصحافة الورقية، فالصحافة الورقية في الرمق الأخير من عمرها، وخلال عقدين من الزمان ستصبح من مخلفات الماضي وتغدو مجرد تاريخ مضى وانقضى. وفي خضم التطورات التكنولوجية التي نتابعها وبالذات في عالم النشر، فإن الصحافة الورقية لم تعد مدرجة في قائمة عالمنا الإلكتروني الذي يجوب كل تفاصيل حياة الإنسان. ولذلك نستطيع القول إن الجيل الذي ألف قراءة الصحف الورقية غادر عالمنا ولم يبق منه إلاّ الباقي القليل الذي بدأ يستعد لمرحلة الرحيل إلى العالم الآخر. ولقد بدأت الأجيال التي ألفت قراءة الكتب والصحف عبر المواقع الإلكترونية تأخذ دورها الحتمي مع صحافة إلكترونية متقدمة جداً، وغابة من إعلام التواصل الاجتماعي المبهر. إن وضع الصحافة الورقية في المقارنة مع الصحافة الإلكترونية خطأ جسيم، فالمسألة ليست مقارنة وسيلة إعلامية بوسيلة إعلامية أخرى، ويجب أن نُسلم بأن الصحافة الإلكترونية ليست وسيلة منفصلة عن منظومة الثقافة الإلكترونية التي باتت تتغلغل في كل أوصال المجتمعات وفي كل أنحاء العالم. ولذلك لا نستطيع أن ننزع الصحافة الإلكترونية من المنظومة الإلكترونية التي أصبحت تشكل ثقافة إنسانية لكل البشر. إن الإنسان بات يقرأ الصحف وينظم مواعيده وينظم اجتماعاته ويكتب تقاريره ويراجع حساباته ويكتب مقالاته، بل ينظم ضربات قلبه، يفعل كل ذلك إلكترونياً من خلال شاشة صغيرة ''موبايل''. إن الصحافة الإلكترونية هي جزء بسيط من منظومة إلكترونية ضخمة تتدخل في كل حياتنا، بل لنقل إنها ثقافة إلكترونية فرضت نفسها في كل تفاصيل وأوصال إنسان القرن الحادي والعشرين. ومع احترامي للتنافس التاريخي بين الصحافة والإذاعة والتلفزيون إلاّ أننا نستطيع القول إن ما بين وسائل الإعلام وبين الشبكة العنكبوتية العالمية شيء آخر مختلف، إننا ندخل عصراً تكنولوجياً جديداً يختلف تماماً عن التنافس الرتيب المتواضع بين وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية. اليوم تشع ثورة التكنولوجيا وتضع الإنترنت العالمية في مجال المنافسة ليس ضد الصحافة فحسب، بل سجل الإنترنت تقدماً ملحوظاً على جميع وسائل الإعلام وأصبحت له وظائف معلوماتية واتصالية وتعليمية وإخبارية وترفيهية كثيرة ومتعددة، واستطاع بالفعل أن يغير وجه العلاقات بين الأمم والشعوب، وأن يسدد ضربات موجعة للصحافة الورقية، بل والكتابات الورقية عامة. وفي خضم هذا الغليان والهيجان نحو تكثيف استخدام الإلكترونيات الرقمية وإحلالها محل الاستخدامات الورقية، فإن الدول تتسابق على تطبيق مشاريع الإحلال تحت اسم الحكومة الإلكترونية، والهدف من هذه المشاريع هو إلغاء الورق واستخدام الكمبيوتر، والعالم يحقق مزيدا من النقلات باتجاه الإدارة الإلكترونية، وإلغاء الإدارة الورقية. ولا نذهب بعيداً فإننا إذا طالعنا صحفنا السعودية في مواقعها الإلكترونية، وقارنا عدد القراء في عام 2010 بعدد القراء في عام 2011، فإننا نجد أن أعداد القراء يتزايدون بمعدلات مذهلة، وإذا استمرت هذه المعدلات عبر الأجيال القادمة وتحول القراء من قراءة النص الورقي إلى قراءة النص الإلكتروني، فإن الإنترنت سيسحب بعض الصحف الورقية إلى الصحافة الإلكترونية، وإذا اتسعت جماهيرية الصحف الإلكترونية أكثر وأكثر، فإن هذا أدعى إلى التفكير في إلغاء بعض الصحف الورقية وتحويلها إلى صحف إلكترونية (وهذا ما حدث بالفعل لكثير من الصحف العالمية) بهدف توفير جزء كبير من رأس المال، إضافة إلى توفير رواتب العاملين ومصاريف الصيانة واستهلاك الكهرباء. إن صحيفة ''وول استريت جورنال'' أصبحت تعتمد بشكل أساسي على موقعها الإلكتروني، كما أن صحيفة ''نيويورك تايمز'' أخذت تسجل أرقاماً مذهلة لعدد زوارها بشكل فاق الزيادة المتواضعة في قراء صحيفتها الورقية، كما أن مجموعة ''نايت ريدر'' الصحافية التي تنشر أكثر من 30 صحيفة أمريكية تعاني أزمة مالية تهدد وجودها بسبب انصراف حزمة كبيرة من القراء إلى الصحافة الإلكترونية. وكانت مجلة ''الإيكونوميست'' قد نشرت تقريراً عن أسباب تراجع توزيع الصحف المطبوعة، ووجدت أن الشباب في هذه الأيام لا يحبذ قراءة الصحف الورقية، ولفتت المجلة إلى أن كثيرا من الصحف الأمريكية دأبت على الاستغناء عن كثير من الصحافيين، وأشارت ''الإيكونوميست'' إلى أن الدعاية والإعلان تأثرا سلباً بسبب الاتجاه إلى الترويج عبر الإنترنت الأقل تكلفة والأعلى مشاهدة، مما أفقد الصحف المطبوعة جانباً كبيراً من الإعلانات التي تعد من أهم مصادر دخلها، وقطعت ''الإيكونوميست'' أن الباقي من عمر الصحافة الورقية ليس طويلاً وأنها ستختفي قريباً أمام اكتساح الصحافة الإلكترونية، وفي السياق ذاته تنبأ المفكر فيليب ميير في كتابه ''نهاية الصحافة'' بأن عام 2043 سيشهد طباعة آخر صحيفة ورقية في الولايات المتحدة، في حين كان مايكل روجر المحرر العلمي في صحيفة ''نيويورك تايمز'' أكثر تشاؤماً، حينما قال إن الصحافة الورقية ستصدر آخر أوراقها في عام 2017! إن كثيراً من الصحف الأمريكية العتيدة غادرت مرحلة الصحافة الورقية.. إلى الصحافة الإلكترونية، وآخر الصحف العريقة هي مجلة ''نيوزويك'' التي ستتحول إلى مجلة إلكترونية مع بداية عام 2013. وإذا كانت الإذاعة والتلفزيون لم ينجحا في القضاء على الصحافة الورقية، فإن الثورة الإلكترونية ليست مجرد وسيلة من وسائل الإعلام فحسب، كذلك لم تأت لتنافس، بل جاءت للإحلال، وتبنت الحكومات إحلال الإلكترونيات محل الورق، وقامت الحكومات في كل أنحاء العالم بإقرار السياسات التعليمية والتدريبية في المدارس والجامعات، حتى أصبحت الثورة الإلكترونية خياراً استراتيجياً في كل دول العالم المتقدم وكذلك النامي، ونذكر - على سبيل المثال - أن استخدام الحاسب الآلي للطالب في الجامعات السعودية أصبح خياراً حتمياً في الإجراءات الجامعية والمراجعة والمذاكرة وقراءة المراجع وإعداد البحوث والدراسات. وفي ضوء ذلك فإن المكتبة الرقمية ستصبح قريباً جداً هي المكان الرئيس لزيارات طلاب الجامعات السعودية، وسيكون الكتاب الإلكتروني (قريباً جداً) مرجعهم الرئيس. بل لا أبالغ إذا قلت إن عدداً زاخراً من الطلاب السعوديين بدأوا يقرأون الصحافة الإلكترونية وينصرفون عن قراءة الصحافة الورقية، لأن مساحة الحرية ومساحة التغطية المصورة والفورية للأخبار والأحداث تتوافر في الصحافة الإلكترونية، ولا تتوافر في الصحافة الورقية، وأمّا ما يقال عن أن الإنسان ألف رائحة الحبر وحشرجة الورق ولمعان الحروف، هذا الكلام ربما يكون صحيحاً بالنسبة للجيل الماضي الذي عششت في ''نخاشيشه'' رائحة الحبر، أمّا بالنسبة للجيل الجديد والأجيال المقبلة التي تغلغلت فيه الثقافة الإلكترونية، فستحل رائحة الكمبيوتر محل رائحة حبر الورق، ولا شك أن هذا الاهتمام الهائل الذي يسود العالم بمجالات تقنية المعلومات وهندسات الكمبيوتر والشبكات الإلكترونية ونشوء ما يسمى بـ ''مجتمعات المعرفة''.. سيدفع كل قوى العالم بقوة نحو استخدام الإنترنت، وقريباً لن يكون هناك أي مجال للمقارنة بين الإنترنت ووسائل الإعلام الأخرى. ودعونا نقول بإيجاز شديد إن ثورة معلوماتية إلكترونية عارمة بهذا الحجم، وهذا الزخم ستضع الصحافة الورقية قريباً في موقف لا تحسد عليه.
إنشرها