Author

ديوان المراقبة العامة: عندما تختلط المفاهيم تختلط المهام

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى
لا يكاد يبدأ ذكر ديوان المراقبة العامة في أي مجلس أو حوار حتى ينتهي بالحاجة الماسة إلى تطويره، لكن تطوير الديوان ليس المقصود منه تطوير أدواته فقط، بل المقصود تطوير فلسفته نفسها، فلسفة المراجعة التي يقوم بها الديوان. لقد ناقشت قبل أكثر من عام قضية فخ التناقض الذي وقع فيه الديوان ولن أعيد مناقشة كل ذلك هنا مرة أخرى، وما أنظر ليس مشكلة الديوان فقط بل ما يجب أن يقوى به الديوان لحل مشاكله ــــ وذلك بقدر ما تسمح به المساحة المتوافرة على صفحة الرأي. الديوان يمارس عدة مهام (سأصنفها لأغراض هذه المقالة على حسب ما تصنفه نظرية المراجعة) إلى مراجعة قوائم مالية، ومراجعة مدى الالتزام، ومراجعة الأداء، فالمادة السابعة من نظام الديوان الذي صدر عام 1391هـ (1970) تنص صراحة على أن مهمة الديوان هي الرقابة اللاحقة على جميع إيرادات الدولة ومصروفاتها، وكذلك الأموال الثابتة والمنقولة ومراقبة حسن استعمالها واستغلالها والمحافظة عليها. ويمكن القول إن عبارة حسن الاستعمال والاستغلال تمنح الديوان الحق في تنفيذ مراجعة الأداء. وقد جاءت المادة الثامنة مفصلة لما اختصرته المادة السابعة، وجاء في البند الثاني منها أن على الديوان التحقق من أن الأموال الثابتة والمنقولة تستعمل في الأغراض التي خصصت من أجلها من قبل الجهة المختصة، وأن لدى هذه الجهات من الإجراءات ما يكفل سلامة هذه الأموال وحسن استعمالها واستغلالها ويضمن عدم إساءة استعمالها أو استخدامها في غير الأغراض التي خصصت لها. وهذا يتضمن مراجعة مدى الالتزام (بنظام الرقابة الداخلية) ومراجعة الأداء، إلا أن النظام لم ينص على هذه العبارات بشكل واضح وصريح، وهذا جعل المادة الثامنة تخلط الأمور تماما فلا تعرف هل هي تتحدث عن سلامة الأنظمة الرقابية والالتزام بها (مراجعة مدى الالتزام)، أم مراجعة الأداء، أم مراجعة مالية صرفة. فالمعنى يتضمنها وفي الوقت نفسه يسمح بالتملص من أي مهمة منها. ثم جاءت المادة العشرون لتنسف ما بنته المادتان السابعة والثامنة تماما، فالمادة العشرون تقدم منتج أعمال الديوان خلال عام وهو أهم منتج للمراجعة أيا كانت وأيا كان نوعها وهو التقرير. المادة العشرون تقول إن على رئيس الديوان رفع تقرير سنوي عن كل سنة مالية على أن يشتمل التقرير (1) تقييم للإدارة المالية للدولة بصفة عامة خلال تلك السنة. (2) تقييم للإدارة المالية لكل جهة من الجهات الخاضعة لرقابة الديوان خلال تلك السنة. (3) بيان عن حساب الختامي لتلك السنة. (4) بيان موجز عن أعمال الديوان خلال تلك السنة. هنا تختفي مهمة مراجعة الأداء تماما من تقرير الديوان وينحصر التقرير في المراجعة المالية فقط حتى إن استخدمت كلمة تقييم لكنها حصرتها في عمل الإدارة المالية فقط. كنت أتمنى أن اللائحة التنفيذية التي صدرت عام 1392هـ (1972) قد وضحت ما تم إغفاله في النظام الأساسي في جانبي مراجعة مدى الالتزام بنظم الرقابة الداخلية ومراجعة الأداء، لكن ذلك لم يحدث بل ركزت اللائحة التنفيذية على مهمات المراجعة المالية التقليدية فقط. ثم جاء قرار مجلس الوزراء رقم 733 وتاريخ 1395هـ (1975) ليكرس مفهوم المراجعة المستندية كأهم إجراء يقوم به الديوان (وهو إجراء وحيد من ضمن عدد كبير من إجراءات المراجعة المالية)، وهذا زاد من بعد الديوان أكثر وأكثر عن تطوير برامج مدى الالتزام بنظام الرقابة وأعمال مراجعة الأداء التي في نظامه الأساسي حتى إن لم ينص عليها النظام الأساسي بصراحة. وبعد كل هذا وذاك أتت لائحة رقابة الديوان على المؤسسات الخاصة والشركات التي تسهم الدولة بحصة في رأسمالها (صدرت عام 1398هـ ــــ 1977)، لتضع الديوان في لعبة الكراسي، فقد جاءت في المادة الثانية أن للديوان لتحقيق أهداف اللائحة القيام بعدد من الإجراءات ومنها (وهو بيت القصيد) ــــ كما جاء في البند (2)، فحص كفاءة الإدارة والتأكد من حسن استعمال الأموال واستغلالها للأغراض المطلوبة منها والتثبت من أن المؤسسة أو الشركة تطبيق نظم حديثة وكافية للرقابة الداخلية. وهنا نص أكثر وضوحا من النظام الأساسي واللائحة التنفيذية على مراجعة الأداء ومراجعة مدى الالتزام. الملاحظ في كل ما سبق قِدم اللوائح التي تحكم عمل الديوان وعدم وضوح الألفاظ وتداخل المعاني بشكل واضح، كما أن اللائحة التي تختص بمراقبة الشركات والمؤسسات الخاصة التي تسهم فيها الدولة تنص على أن هدف الديوان هو فحص الحسابات الختامية للتأكد من أنها تعبر تعبيرا صحيحا عن صافي الأرباح والخسائر والمراكز المالية للشركة وأي خريج حديث يعرف أن هذه العبارة لم تعد مستخدمة من زمن بعيد وتتعارض تعارضا واضحا مع المفاهيم الحديثة لأخطار المراجعة. إن عرضا بسيطا لهذه اللوائح يكشف عن خلل خطير في أداء وواجبات الديوان وتناسبها مع المفاهيم الحديثة في علم المراجعة، ليس هذا فحسب، بل فيها تسطيح خطير لمهام معقدة مثل مراجعة مدى الالتزام ومراجعة الأداء وعلاقة الديوان بالمراجع الخارجي، وعلاقته المنتظرة بوحدات المراجعة الداخلية ومركز قياس الأداء وهيئة الفساد. ويكفي تدليلا لكل ما سبق أن جميع الحالات التي اكتشفتها هيئة الفساد لم تأت عن طريق ملاحظات الديوان وهو المكلف رسميا بكشف هذه الحالات وفق نظامه الحالي. سأكتفي هنا اليوم وسأعمل غدا على توضيح العلاقة غير الواضحة بين الديوان والمراجعين الخارجيين وكيف يمكن للديوان لعب دور واسع في تطويرها وتطوير نفسه وتطوير هذه المهنة.
إنشرها