Author

تحديات تحرير سوق الكهرباء في المملكة.. غياب السياسات والأهداف (2)

|
مقال الشهر السابق تناول بعض الخصائص الفنية للكهرباء التي أعاقت إلى حد ما إمكانية معاملتها كسلعة يتم تداولها في سوق حرة تدار باستثمارات القطاع الخاص وبإشراف هيئة مستقلة. مقال اليوم سيسلط الضوء على أهم عقبة تواجه تطوير صناعة الكهرباء من خلال الخصخصة، فتحرير سوق الكهرباء في المملكة، وهي غياب الرؤية لهذه الصناعة. غياب الرؤية الواقعية أو حتى الواضحة على أقل تقدير التي من خلالها يتم رسم الإطار العام لدور قطاع الكهرباء نحو الاقتصاد والمجتمع، شكل قاعدة صلبة وبيئة خصبة خلقت تحديات ليس لها أول من آخر. هذه التحديات تفاقمت حدتها مع الوقت – وما زالت - وذلك لأن غياب الرؤية تغييب للأهداف الصريحة والسياسات المستدامة الموصلة لتحقيق تلك الأهداف. لكن – مع الأسف - أغلبية الأنشطة الاقتصادية في المملكة ما زالت تستجدي السياسات التي تزيد كفاءتها، الأمر الذي خلق مصاعب عميقة جدا أسهمت في تأخير إجراء إصلاحات جذرية لتلك الأنشطة. وعلى الرغم من أن المنظومة الكهربائية معقدة للغاية، وبالتالي تتطلب تخطيطا هندسيا وإداريا يواكب تعقيد المنظومة، إلا أن قطاع الكهرباء (و قطاع الطاقة عموما) ما زال يعاني ضبابية الرؤية وغياب السياسات الواضحة والصارمة، وهذا دليل في حد ذاته على عدم تقدير احتياجات هذه الصناعة من موارد وتنظيمات تضمن استمرار إيصال وتشغيل الخدمة بكفاءة مقبولة. هناك مؤشرات كثيرة تدل على ضبابية الرؤية لقطاع الكهرباء كتداخل أدوار المؤسسات ذات الصلة، ورسم الأهداف الظرفية، وتغليب مصالح المستهلكين على حساب المنتجين وأمور أخرى كثيرة متشعبة ومتداخلة. إلا أن من أبرز إفرازات ضبابية الرؤية التي قد تعوق إلى حد كبير تحرير سوق الكهرباء وجذب استثمارات القطاع الخاص تكمن في طبيعة القرارات وتوقيتها، فالتاريخ أثبت أن القرارات المؤثرة في أداء قطاع الكهرباء تكون إما ارتجالية وسريعة وإما متأنية ومترددة ولا تطبق إلا بعد إجراء دراسات واستشارات مطولة جدا. المؤسف أن القرارات السريعة دائما ما يتم فيها تغليب مصالح المستهلكين (مصالح آنية وضيقة) على حساب موثوقية الخدمة وجودتها، وسنرى كيف شكلت تلك القرارات حاجزا حقيقيا لتحرير سوق الكهرباء اليوم. قرارات تخفيض تعرفة الخدمة اتخذت عدة مرات عبر التاريخ بلا أي تنسيق سابق مع مقدمي الخدمة حينذاك. هذه التخفيضات تزامنت مع ارتفاع دخول المستهلكين وتسارع النمو السكاني والصناعي، وبالتالي ارتفعت معدلات الطلب بتسارع محرج للدولة ومقدمي الخدمة. وبسبب تلك القرارات اضطرت شركات الكهرباء إلى الدخول في دوامة القروض ذات التكلفة العالية على الرغم من انخفاض الإيرادات بشكل كبير، وذلك لتنفيذ مشاريع مستعجلة لمواجهة الطلب المتزايد. هذا إضافة إلى عجز الدولة عن الوفاء بتقديم نسبة الأرباح الثابتة للمستثمرين، وذلك لارتباط دخل الدولة بأسعار النفط المتذبذبة. ومنذ أن فرضت الدولة التسعيرة الحكومية زادت سيطرتها المالية ونفوذها الإداري لشركات الكهرباء الخاصة، الأمر الذي أزاح القطاع الخاص تدريجيا. ومع تحسر رجال الأعمال على استثماراتهم التي كانت مربحة جدا لبعض الشركات، لم تنجح الدولة في إنقاذ صناعة الكهرباء التي أصبحت تتطلب ميزانيات كبيرة ومتزايدة. وبعد تكوين لجان وزارية وإجراء دراسات عديدة لاقتراح حلول منقذة للصناعة، أقرت الدولة في منتصف التسعينيات خطة شاملة لإعادة هيكلة القطاع تمهيدا لجذب القطاع الخاص مرة أخرى لإدارة قطاع الكهرباء وتشغيله. ما يهمنا في مقال اليوم هو أثر قرارات الدولة في مستوى خطر الاستثمار في صناعة الكهرباء. فالشركة السعودية للكهرباء قدمت لمجلس الوزراء قبل تشغيلها في عام 2000 هيكلة لتعرفة الخدمة رأت أنها تراعي جميع فئات المستهلكين. وبعد موافقة مجلس الوزراء وإقرار التعرفة ارتفعت الأصوات المطالبة بضرورة تخفيض التعرفة المقرة وأن الشركة السعودية للكهرباء بالغت في قيمة التعرفة. وعلى أثر تلك المطالبات قام مجلس الوزراء بتخفيض التعرفة مرة أخرى في أقل من سبعة أشهر فقط، الأمر الذي أحبط تنفيذ خطة تمت دراستها لعدة أعوام وشكك في جدية الدولة في الالتزام بإجراء إصلاحات ضرورية في قطاع الكهرباء تمهيدا لمشاركة فاعلة من القطاع الخاص. ما زاد الأمر سوءا أن الدولة تعاملت بعدها مع الشركة السعودية للكهرباء كزبون لديها تشتري منها الوقود بدلا من أن تنظر إليها كمقدمة خدمة أساسية ومثقلة بالديون. فالشركة السعودية للكهرباء قررت توجيه إيراداتها نحو مشاريعها التوسعية لزيادة سعتها الإنتاجية بدلا من دفع ديونها نحو الدولة لاستخدام الوقود، فامتنعت بالتالي مرافق الدولة كافة من سداد تكلفة خدمة الكهرباء ما عقد الوضع المالي للشركة. ورغم تدخل الدولة لحل هذا الأمر بعد عدة أعوام وتفاقم الأوضاع المالية للشركة، إلا أن حزمة القرارات هذه لا تغيب أبدا عن المستثمرين وتضعهم في حالة تحسب شديد وحذر مستمر قبل التورط والمخاطرة للاستثمار في هذه الصناعة. وأخيرا أقرت الدولة منح هيئة تنظيم الكهرباء صلاحية تعديل التعرفة (أكتوبر 2009)، التي أقرت الهيكلة الجديدة لتسعيرة الخدمة بعد ثمانية أعوام من إنشائها وبعد إجراء دراسات عديدة أقرت بأن الشركة السعودية للكهرباء تواجه فعلا كارثة مالية، كدليل آخر على بطء تنفيذ قرارات الإنقاذ. إذن قرارات الدولة وسلوكها نحو مقدمي الخدمة لم تتسبب في ارتفاع نسبة خطر الاستثمار في صناعة الكهرباء فحسب، بل تسببت في أزمات حقيقية، كما سنرى في المقالات القادمة، تشكك في إمكانية تحرير سوق الكهرباء، كما هو الحال في نموذج إنجلترا وويلز. لكن يظل السبب الرئيس في تأجيل أي مبادرة ملموسة لتحرير سوق الكهرباء في المملكة متركزا على غياب الرؤية والسياسات الصارمة لقطاع الكهرباء.
إنشرها