Author

هل نحول الاحتفالية إلى نظرة مستقبلية؟

|
"انتهت السكرة وجاءت الفكرة"، هذا مثل كثيراً ما يستخدمه الناس للتعبير عن ضرورة الانتهاء من أجواء الاحتفالية في أمر من الأمور، والالتفات إلى العمل الجاد، وقيمة هذا المثل تكمن في كونه ينبه الفرد، أو الجماعة عن الغفلة، والانشغال في الأمور الأقل أهمية، ويدعو إلى أخذ الأمور بكل اهتمام وإعطائها ما تستحقه من جهد وتفكير, وبمناسبة احتفالية جامعة الملك سعود بمرور 50 سنة على إنشائها، وإقامة حفل ضخم شرفه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، وجمع من المسؤولين وأبناء المجتمع ومنسوبو الجامعة من أساتذة وطلاب، تأتي الفرصة سانحة لنقف مع أنفسنا سواء على صعيد المجتمع الكبير، أو على مستوى المجتمع الصغير في عدده، الكبير في مؤهلاته، وإمكانياته العقلية، والمهارية، والمعرفية، إنه مجتمع الجامعة بإدارته العليا وأعضاء هيئة تدريسه وجميع خبراته الإدارية والأكاديمية والمعلوماتية. نقف نتساءل، هل نجعل المناسبة تمر علينا مرور الكرام ونعيش معها في لحظتها، نفرح، ونستشعر كيف كنا في البدايات وكيف أصبحنا، أم أننا نقف مع الذات نصارحها، ونتبصر بعمق وترو في وضعنا خاصة أننا أصبحنا جزءاً من منظمة التجارة العالمية، بكل ما يعنيه ذلك من تبعات تفرضها هذه العضوية، من تأثير شامل ومنافسة. إن مجتمعنا أحوج ما يكون في هذه الفترة من التاريخ، إلى جامعة أو جامعات تكون على مستوى المرحلة، مما يؤهل المجتمع للدخول في عصر العولمة، ومنظمة التجارة العالمية بكل ثقة واقتدار، ثقة تؤهله ليأخذ ما يريد، لا ما يفرض عليه سواء كانت منتجات مادية أو ثقافية أو سلوكية، ويعطي ما يحتاج إليه الآخرون. وأعتقد أن دوراً كهذا تلعبه الجامعة في وطننا يمكن أن يتحقق وفق شروط ومقتضيات لابد من توافرها دونما تردد أو تأخير. إن بنية الجامعة الفكرية والإدارية والتنظيمية تمثل حجر أساس لأي تغيير من الممكن أن يحدث، وما لم ندرك إدراكاً صحيحاً ودقيقاً هذه البنية، فإن الوضع سيستمر على ما هو عليه، لو سألنا أنفسنا هل لدينا خريطة أولويات نسير عليها في أنشطتنا وجميع فعالياتنا؟ وإذا كانت هذه الخريطة موجودة فهل عملت بشكل صحيح؟ هل تحتل الأمور الأكثر أهمية المواقع المتقدمة وتحظى بالاهتمام الأكثر؟ أم أن الخريطة عملت بشكل خاطئ؟ حيث تحتل الأمور الهامشية المراكز المتقدمة بينما الأمور الجوهرية تتراجع وتأخذ مواقع متأخرة. إن مراجعة وجردة حساب نجريها لكشوفنا، ووثائقنا قد تكشف أن بعض نشاطاتنا أملتها طريقة تفكير خاطئة متأثرة بما يسود في المجتمع، حيث الاهتمام بالمظهر على حساب الجوهر، وسيطرة البهرجة على اللب والجوهر في بعض الأحيان، مما يجعل الجامعة مقلدة لا مبتكرة، وتابعة لا قائدة، ومثل هذا الوضع يفسر بافتقاد فلسفة واضحة تسير على ضوئها الأنشطة والفعاليات، وترسم الطريق نحو الأفعال الأكثر فائدة والأدوم بقاءً. المجتمع في وضعه الحالي، حيث الثراء المؤقت، يحتاج إلى برامج عمل ترسم، حيث الجامعات تأخذ في الحسبان الوضع المؤقت للثروة، وتسعى للبحث عن البدائل، والطرق المثلى للاستفادة من هذه الثروة، إن بلداناً كثيرة تفتقد الثروات الطبيعية، لكن جامعاتها استطاعت أن تحول نقص الثروات بل وافتقارها إلى قوة وعطاء وإنتاج نظراً لما خلقته من عقول مفكرة قادرة على الإبداع والإدارة الحكيمة التي تستثمر الوقت وتبذل الجهد وتدخر القرش الأبيض لليوم الأسود كما يقول المثل. جردة الحساب، لو عملناها، لربما كشفت لنا، أننا بأمس الحاجة إلى تغيير الأنماط الإدارية لدينا وتبني مفهوم الإدارة المرنة الحازمة، المرنة بما يسير وييسر الأمور بشكل جيد بعيد عن الروتين والبيروقراطية التي تبدد الجهود وتزيد من التكاليف. الجامعات لدينا لم تعد متميزة، بل مثلها مثل أي جهاز حكومي آخر، المعاملة التي تحتاج إلى ساعات أو يوم لإنجازها تأخذ أشهراً بين مكاتب الجامعة ومجالسها وعند قياداتها. أما الإدارة الحازمة فهي التي لا تدع مجالاً للتسيب وإضاعة المال وصرفه في الأمور الأقل أهمية، الإدارة الحازمة يتحقق بها استثمار الوقت وتوجيه الجهود وبها يتحقق الإنصاف والعدل. وهذه الأمور تتطلب أفراداً أكفاء في شخصياتهم وانضباطهم واستشعارهم بالمسؤولية وخبراتهم وبعدهم عن التحيز وميلهم إلى الموضوعية في قراراتهم. الجمع بين المرونة والحزم، ليس بالأمر الهين، ولا يمكن أن يمارسه أي فرد ما لم يكن مهيأ في بنائه النفسي، وطريقة التفكير، وكما يقول المثل لكل امرئ من دهره ما تعودا. الأمل الذي نتطلع إليه، هو ألا تتحول هذه المناسبة إلى موقف نكرم فيه أنفسنا على إنجازاتنا، مهما كان حجمها، مع أن التكريم والتهنئة واجبة إذا أردنا للمسيرة أن تستمر، خاصة إذا علمنا الأثر المعنوي للتكريم، لكن ما نتطلع إلى تحقيقه الخروج بدروس من الخمسين سنة الماضية، نحدد الإيجابيات والسلبيات، ونراجع الأهداف، ونرسم الخطط، ونغير في طرائق تفكيرنا مع استحالة هذا مع البعض، لأن هذا البعض يفتقد مقومات التغيير في تكوينه الأساسي. وكما يقول علماء النفس العقل المتصلب لا يمكن أن يقبل الجديد، بل ويرفضه، لأن الجديد يشعره بالوحشة ويحدث لديه عدم الثقة والاهتزاز أمام الآخرين بل وقد يهدد مصالحه، فالإنسان الذي لا يجيد التقنية يحاربها لا لشيء سوى كونها شيئا جديدا. العقود الماضية أحدثت تغييراً اجتماعياً يصل إلى حد الانقلاب لدى البعض في المفاهيم، والعلاقات، وطريقة العيش والحياة، كما أوجدت أنماطاً سلوكية جديدة لم يعهدها المجتمع من قبل، ولذا فلا بد من أن يكون للجامعات دور في مواجهة هذه التغيرات المستجدة، والتعامل معها بطرق علمية سليمة، تحفظ للمجتمع شخصيته، وهويته، وتحافظ على استقراره، وتماسكه، وتهيئ الفرصة لمزيد من البناء والإنتاج والعطاء. بيئتنا لم تعد تلك البيئة النظيفة الخالية من الملوثات، بل أصبحت مليئة بالكربون، والمخلفات، كما أن صحتنا أصبحت عرضة لأمراض لم نكن نعهدها من قبل، فهل برامجنا وتخصصاتنا وما نقبله من الطلاب يكفي لاحتياجات المجتمع؟ وما يقال عن السلوك، والبيئة والعلاقات الاجتماعية، يقال عن البطالة، ومناسبة المخرجات لاحتياجات سوق العمل، سواء في نوع التخصصات، أو مستوى التأهيل، والتدريب، والمهارات. لقد خرجت الجامعات عناصر أثبتت جدارتها نظراً للتأهيل العالي الذي تتمتع به، لكن عدداً آخر، ليس بالقليل، لم يجد فرصة عمل نظراً لعدم مناسبة تخصصه للاحتياج في سوق العمل، أو لقلة الكفاءة وتدنيها. المراجعة الشاملة، والشفافية، بغرض الوقوف على مواطن القوة والضعف، هو الأسلوب الأمثل لخدمة المجتمع، الخدمة المناسبة، وإذا كانت الإدارة في الجامعات تشكل أهمية بالغة، فإن أعضاء هيئة التدريس، لا يقل دورهم عن دور إدارة الجامعة، إن لم يفقها، ذلك أن أعضاء هيئة التدريس في الميدان، وهم من يعد الكفاءات، فقوة هذه الكفاءات وضعفها، وتمكنها من تخصصاتها، وتشكيلها للمهارات، يعتمد على ما يبذله أعضاء هيئة التدريس مع طلابهم، ويرتكز على ما يتمتعون به من خصال، وأخلاق، وحرص، وتفان واستمرار، ومتابعة لكل جديد في المجال. المعرفة أصبحت تتضاعف في المجالات كافة وما لم يكن لدى عضو هيئة التدريس الرغبة في المتابعة، سيكون متخلفاً عن المعرفة العالمية في مجاله، ومن ثم ستكون مخرجاته ضعيفة، ولا تناسب الاحتياج في سوق العمل. إن المراجعة الصادقة الواعية الشاملة، التي تتوفر لها إمكانياتها، وظروفها الموضوعية، هي التي تشكل نقطة انطلاق نحو مستقبل تكون فيه الريادة لمجتمعنا عالمياً، ليس مجرد شعار نردده، بل واقع نحياه ويحياه الآخرون معنا. ولعلنا نعدل مقولة امرئ القيس ونقول اليوم أمر وغداً أمر.
إنشرها