Author

مافيا الإعلان.. الظل الاقتصادي الأسود

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
تعددت تموجات اقتصاد الظل Shadow Economy وتمددت في صلب الاقتصادات المعاصرة بصورةٍ استعصى حتى على راسمي السياسات الاقتصادية السيطرة على هذا الأخطبوط الماكر! ولمن لا يتذكر ما هو اقتصاد الظل، فهو ذلك المجال من الاقتصاد الذي يشمل إضافة إلى الأنشطة الاقتصادية غير المشروعة كافّة أشكال الدخل التي لا يُعبّر عنها رسمياً، والتي يتم تحصيلها من إنتاج السلع والخدمات المشروعة، سواءً كانت من المعاملات النقدية أو المعاملات التي تتم بنظام المقايضة. وقد تناولت سابقاً العديد من أنشطة هذا الاقتصاد الأسود، وركّزت على أبرز أشكاله التي تجثم على صدر اقتصادنا الوطني، كان من أهمها ما يرتبط بنشاط "التستر التجاري"، الذي تغلغلت أياديه الخفية لتسيطر تماماً على العديد من المجالات التجارية والمهنية كالمهن الطبية ومقاولات البناء والتشييد وقضايا التستر الواسعة الانتشار في الكثير من أنشطة البقالات والمحلات التجارية الصغيرة والمتوسطة، محلات الحلاقة والسباكة والصيانة الكهربائية والخياطة وغيرها كثير، الممتدة عبر مختلف أرجاء المدن والقرى في السعودية، إضافةً إلى "اللعبة القديمة" المتمثلة في العديد من الشركات الكبرى العاملة في السعودية تحت مسمى "التمثيل التجاري"، وهو مصطلح وهمي تم وضعه بهدف إخفاء حقيقة وطبيعة أعمال تلك الشركات المخالفة للأنظمة والقوانين القائمة لدينا. ولكن ما الجديد في هذا الموضوع الشائك؟! الجديد القديم فيه النشاط المحموم الدائر في سوق الإعلان، تلك السوق التي تبدو رغم أهميتها في الاقتصادات المعاصرة أنها لم ترتق بعد الاهتمام بتنظيمها ووضعها تحت العين المراقبة إلى المستوى المستحق! فلم تكتفِ مخرجاتها المنتجة بما أحدثته من تشوهات كبيرة في نسيج ثقافتنا وعاداتنا، وصلت في أحيانٍ كثيرة إلى حدِّ الاستفزاز، والمجاهرة المقصودة بمحاربة وتشويه سمات جمال الحياة الاجتماعية السعودية، بل لقد وصل بها الأمر إلى أن تجاوزت حتى حدود الاستهزاء بثقافتنا الخالصة ديناً وعروبة! كل هذا تمَّ تحت عين ومسمع صناع القرار في وسائل الإعلام العربي، تلك الوسائل التي يسيطر عليها نحو 90 في المائة من رؤوس أموالنا الوطنية! ليس هذا فحسب، بل لقد تمادت هذه الصناعة المهمة التي يسيطر عليها من أعلى الهرم إلى أخمصه نسبة كبيرة جداً من غير السعوديين لاحتكار جميع أنشطتها، على مستوى فرص العمل والفرص التجارية والتسويقية المتاحة. ولك أن تتخيل ما تشاء من الأساليب المستخدمة مجازةً كانت أم مخالفة من قبل الأيادي النافذة الأجنبية في هذه الصناعة، التي تهدف إلى طرد العمالة الوطنية، كمساهمةً منها في تعزيز رصيد بطالة المجتمع الذي تتضخم أرصدته من جيوب أفراده، كما تقوم تلك الأيادي الخفية بمحاربة منافسيها من رجال الأعمال السعوديين الباحثين عن "مشاركتها" الفرص الاستثمارية المتوافرة في هذه السوق العملاقة، حتى وصل الوضع بالعديد من رجال الأعمال السعوديين إلى الإفلاس والخروج من السوق، بل لقد انتهى الحال ببعضهم إلى دخول السجون بسبب عجزهم عن دفع الديون المالية الضخمة التي ترتبت على خوضهم التجربة في هذه السوق مقابل انعدام أي تدفقات للدخل! حدث هذا ويحدث في سوق الإعلان المحلية التي فاقت إيرادات صناعتها السنوية خلال 2005 فقط ما يقارب ملياري ريال، ويتوقع أن ترتفع هذه الإيرادات في سوق الإعلان السعودية بنهاية عام 2010 إلى ما يفوق الثلاثة مليارات ريال. أتساءل بعد هذا؛ هل اتخاذ موقف حازمٌ وجاد تجاه هذا التحدي الجسيم أمرٌ معقد ومستحيل؟! ثم، هل ترْك الأمر على ما هو عليه من استشراءٍ فادح التكاليف على حساب اقتصادنا وقيمنا الحضارية مأمون العواقب؟! أخيراً وليس آخراً، في ظل التطورات الاقتصادية الإيجابية التي نمر بها اليوم والمتوقع أن تنعكس إيجاباً على إيرادات هذه الصناعة المهمة، أليس المواطن الباحث عن فرصة عمل مجدية، والآخر ممثلاً في رجل الأعمال الباحث عن فرصة استثمارية لمدخراته، أحق بالنصيب الأوفر من فرص العمل الجيدة في هذه الصناعة وبإيراداتها المليارية المتوقعة مستقبلاً؟! في رأيي أن الإجابة الجادة والمسؤولة عن هذه الأسئلة الجوهرية وغيرها، تتمثل في التحرك الجاد والسريع لأجل معالجة وتصحيح هذا الاختلال الكبير في هيكلية صناعة الإعلان السعودية. إننا بحاجةٍ ماسة إلى التحرك الفاعل على ثلاثة اتجاهات رئيسة؛ الاتجاه الأول: ينطلق من وزارة التجارة والصناعة من خلال وضعها لنظام خاص بهذه الصناعة المهمة، والتفعيل بصورةٍ سريعة وواسعة لكل ما نصت عليه أنظمة مكافحة التستر، ومكافحة الغش التجاري، والمنافسة، والتسوية الواقية من الإفلاس، وحماية وتشجيع الصناعات الوطنية، في كل ما يتعلق بهذه الصناعة. الاتجاه الثاني: ينطلق من وزارة العمل بتشديد ضوابط سعودة الوظائف في قطاع صناعة الإعلان، وزيادة جرعات الإشراف والرقابة على ما يحدث في أروقة الشركات والمؤسسات العاملة في هذا النشاط، ودعم وحماية العمالة الوطنية فيها سواءً ضد التعسف الإداري الذي تواجهه، أو ضد التباين في الأجور والرواتب التي تُشير المقارنة بين ما يتحصل عليه المواطنون مقارنةً بما يتحصل عليه غيرهم إلى حقائق مروعة ومفجعة! الاتجاه الثالث: ينطلق من وزارة الثقافة والإعلام بالتحرك السريع لأجل حماية كنوز ثقافتنا وحضارتنا من تلك التجاوزات الإعلانية المتهورة وغير المسؤولة، فلم يعد بالمستطاع تحمّل هذا الكم من الاستفزاز الإعلاني المخل على شاشات التلفزة وعبر أثير الراديو وفوق صفحات الصحف وعلى جوانب طرقنا وشوارعنا، إلى حدٍّ أصبح فيه الشيخ الوقور يتراقص كالمجنون طمعاً في سلعةٍ ما، أو ربُّ أسرةٍ سعودية يركض كالمخبول خلف سلعةٍ أخرى، أو امرأةٍ سعودية تعبث باستهتارٍ في الأسواق باحثةٍ عن سلعةٍ أخرى هي أيضاً! مرارة الألم دفعتني لأن أكشف النقاب عما سبق، وأن أطالب بما طلبت، فهل تجد من يستشعرها ويتخذ منها موقفاً أقوى وأنجع؟! - عضو جمعية الاقتصاد السعودية [email protected]
إنشرها