Author

هل يوجد خيار أفضل من الاستثمار في الإنسان؟

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
يأتي الإنسان على رأس قائمة مقدرات أي بلد في العالم، ولا يمكن لأي اقتصادٍ معاصر حول العالم أن يتقدم خطوة واحدة إلى الأمام دون أن يأخذ بعين الاعتبار ما يجب عمله تجاه هذا المكوّن الأساسي للوطن والدولة والمجتمع. تطرقت كثيراً فيما سبق في العديد من المقالات إلى جوانب متفرقة من هذه القضية الجوهرية لأي اقتصاد، إلا أنها تحتل مساحةً أكبر بالنسبة لنا في السعودية في هذا الوقت تحديداً، خاصةً أننا مقبلون على خوض تحديات كبيرة من الوزن الاستراتيجي الثقيل! في ثنايا ودهاليز المستقبل القريب، الذي بدأت إشعاعاته فعلاً بالتغلغل في جنبات وأروقة حياتنا المعاصرة. أؤكد أن اختلاف طبيعة التحديات المستقبلية المقبلة عما سبق ورأيناه في غضون العقود الأربعة الماضية، يتطلّب منا اتخاذ سياسات وخطط مغايرة لما اعتدنا عليه سابقاً، هذا أمر, الأمر الآخر؛ إن سياساتنا التربوية والتعليمية السابقة حملت كثيراً من الأفكار الخلاقة والخطط الطموحة، غير أن ما أصابها في المقتل عدد من المثبطات التي تتوزع مسؤوليتها على العديد من الأطراف؛ ويتطلب الوضع الراهن البحث فيها دراسات مطولة وليس مقالا بهذا الحجم! لذا ينبغي القيام بهذه المهمة الحاسمة الآن، وتحديد تلك المثبطات المدمرة لتلك الأفكار والمشاريع الطموحة على طريق تنمية وتعزيز قدرات المواطن السعودي، التي نحن كوطنٍ عظيم يبحث عن أعلى وأرقى مكان بين دول العالم المعاصر في أمسِّ الحاجة إلى تلك الموارد البشرية الوطنية المؤهلة على أفضل صورة. شخّص الفصل الـ 20 من خطة التنمية الثامنة الأخيرة بعنوان "تنمية الموارد البشرية" كثيراً مما أتحدث عنه، والتحدّي الماثل أمامنا اليوم أن نفعّل ما نصّت عليه مقترحات تلك الخطة، منطلقين بعزم من جوهرين أساسيين ركز عليهما "تقرير التنمية الإنسانية العربية", الجوهر الأول: بناء القدرات البشرية الممكَّنة من التوصل إلى مستوى رفاهٍ إنساني راق، وعلى رأسها العيش حياة طويلة وصحية، واكتساب المعرفة، والتمتع بالحرية لجميع البشر دون تمييز. الجوهر الثاني التوظيف الكفء للقدرات البشرية في جميع مجالات النشاط الإنساني، بما فيها الإنتاج وفعاليات المجتمع المدني والسياسة. الحديث هنا واضحٌ ومحدد إلى حدٍّ بعيد، فقط يتبقى "الفعل"؛ وهذا محور التحدي والرهان الذي يجب كسبه، وتوظيفه في مصلحة الإنسان السعودي الأجدر بكل هذا وأكثر منه. موقعنا على خريطة التحديات التي تواجهها مختلف دول العالم في هذا السياق من الناحية المادية أفضل بكثير من تلك الدول، وبحمد الله فلا نواجه, على أقل تقدير في الوقت الراهن, مشاكل كبرى من ناحية التمويل، حيث أشارت الخطة الثامنة إلى أن نسبة الإنفاق على قطاع التربية والتعليم في السعودية بلغت أخيرا نحو 9.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وتفوق تلك النسبة مثيلاتها في عدد من الدول المتقدمة والنامية مثل فرنسا وألمانيا وإندونيسيا والفلبين. كما بلغت نسبة الإنفاق على التعليم في السعودية 25 في المائة من الإنفاق الحكومي، فيما لا تتجاوز هذه النسبة في المتوسط 12.3 في المائة في الدول الصناعية، ونحو 18.4 في المائة في الدول النامية. من جانبٍ آخر أشارت أرقام الخطة الثامنة إلى أن إجمالي ما تم إنفاقه فعلياً على قطاعات التعليم العام والتعليم العالي وبرامج قطاع التدريب خلال الفترة "2000- 2004" قد تجاوز 306 مليارات ريال، وتتجه خطة التنمية المقبلة للفترة "2005- 2009" إلى إنفاق ما يفوق 348 مليار ريال، أي بنسبة نمو بلغت 14 في المائة. وإذا نظرنا في القنوات التي ستصب فيها تلك الإنفاقات التقديرية ممثلةً في تمويل العملية التعليمية وتطويرها، بما تنطوي عليه من جوانب إدارية، وتنمية العمالة الوطنية في القطاع، ودعم الخدمات الطلابية والنشاط غير الصفي، إضافة إلى تشغيل المرافق التعليمية وصيانتها، وبرامج إنشاء المدارس والمرافق التعليمية، وخدمات وأنشطة طلابية، وخدمة المجتمع، إضافة إلى برامج البحث والتطوير، والابتعاث والتبادل الثقافي, سنجد أنها مقارنةً بحجم التحديات المستقبلية تتطلّب مزيداً من المخصصات المالية، وهذا خيار استراتيجي مطلوب القيام به إذا أردنا فعلاً أن نجتازه، مشيراً إلى أن هذا ما حدث فعلاً أثناء الفترة "2000- 2004" التي قُدّرت مخصصاتها في بداية الخطة بنحو 277 مليار ريال، وزادت فعلاً بنسبة 10.5 في المائة إلى 306 مليارات ريال، استجابةً للمتغيرات المستجدة، وتقديرياً فمن الممكن أن نحتاج إلى زيادة مخصصات تنمية الموارد البشرية خلال الفترة المقبلة بنحو 20 في المائة على أقل تقدير، أي أننا بحاجة إلى إنفاق 418 مليار ريال خلال الفترة 2005 ـ 2009! إنها استثمارات مهمة في الإنسان، عوائدها لا تقاس بالأرقام فقط، إنها تتدخل في كل جزء من أجزاء الوطن والاقتصاد السعودي، تخدم أغراضنا في رفع كفاءة التشغيل، وتعزيز الاستقرار الاقتصادي، وتطوير قدرات الوطن، وتخفيض الإهدار في الموارد، وغيرها من العوائد التي لا تستطيع أرقامنا قياسها. من جانبٍ آخر، فإن زيادة تركيزنا وإنفاقنا على بناء وتطوير قدرات الإنسان السعودي نافذة مشرعة الأبواب لخلق أجيال مقبلة من الأفراد المؤهلين لتحمل مسؤولية إدارة الوطن واقتصاده وفرض وجوده بين مصاف دول العالم، وهذه قضية استراتيجية بعيدة الأمد، لا يمكن تجاهلها بأي حالٍ من الأحوال. إن "الريال" الذي سننفقه اليوم على هذا الإنسان، سيعود غداً عشرات الريالات؛ سواءً كقيم مضافة إلى الاقتصاد، أو كتخفيض مطلوب في الهدر الاقتصادي. فهل بعد كل ما سبق، هناك خيار استثماري أفضل من الاستثمار في الإنسان السعودي؟!
إنشرها