Author

أين نحن من حرب الرسوم المشتعلة بين الصين وأمريكا؟

|
تابعنا ونتابع جميعاً تصاعد حدة الخلافات بين الصين والولايات المتحدة، فضلاً عن تصاعد الانتقادات من كلا الجانبين ولكلا الجانبين، بشأن السياسة التجارية والدعم وغيرها. فالولايات المتحدة تطالب الصين بالتحرير الجزئي لعملتها (اليوان)، حتى لا تكون الصادرات الصينية في وضع تنافسي يفضل نظيرتها الأمريكية. كما تطالب الصين الولايات المتحدة بتخفيض الدعم المقدم للشركات والمنتجات الأمريكية، وهو ما يضعها في وضع تنافسي أفضل من نظيرتها الصينية في السوقين الصينية والعالمية. لقد حذرنا فور وقوع الأزمة، أي منذ ما يقرب من عام ونصف العام – وعلى صفحات هذه الجريدة الغراء – من أن الأزمة وجذورها لم تتكشف بعد للكثيرين، وأن العالم سيشهد موجة وسباقاً نحو الحمائية، Protectionism ربما يقوض نظام التجاري الدولي، وسبب ذلك كون المبادلات التجارية الدولية تتم بشكل غير عادل، أسهم في خلخلة هيكل أكبر اقتصاد في العالم، وقاده إلى التحول إلى اقتصاد فقاعي، يشكل فيه القطاع المالي نحو 24 في المائة من الناتج المحلي، في مقابل نحو 14 في المائة للقطاع الصناعي!! كانت النتيجة أن تحولت الولايات المتحدة إلى مستورد صافٍ للسلع، حتى تفاقم عجز ميزانها التجاري، ولامس التريليون دولار في نهاية عام 2008م، والفضل في كل هذا يعود إلى الصين التي تستحوذ على نحو نصف عجز الولايات المتحدة مع العالم! بمرور الوقت منذ الأزمة، فََقَدَ الدولار الأمريكي الكثير من قوته وقيمته، وهذا بالطبع في مصلحة الاقتصاد الأمريكي، الذي عزز من قدراته التصديرية، وخفف من عجز ميزانه التجاري، وهذا أتى بالطبع على حساب الصين. تحقق كل هذا بسبب حِزم الدعم القوية التي قدمتها الولايات المتحدة لمختلف القطاعات، تحت سمع وبصر ما يسمى ''بمنظمة التجارة العالمية''. بالطبع نحن في مثل هذه الظروف نعايش مبادلات تجارية غير عادلة، وضعت المنتج والمصدر الأمريكي - الذي حظي بدعم قوي - في الوضع نفسه مع نظيره في الدول الأخرى، فهل نحن هنا بصدد مبادلات تجارية عادلة؟ كان علينا أن نتوقع تصاعد حدة الخلافات بين القطبين (الصيني والأمريكي): ترفع الولايات المتحدة الرسوم على عدد من المنتجات الصينية بحجة حماية اقتصادها، فترد الصين بإجراء مماثل، وهكذا دواليك. السؤال الآن، أين دولنا النامية من تلك الأحداث الجارية؟ فلم تكن لنا ناقة أو جمل في إشعال الأزمة برمتها، ولكن أصابنا لهيبها، وغرقنا في أوحالها. ألم تُغرق أسواقنا المنتجات الصينية حتى بات كل شيء في بيوتنا – تقريباً – صنع في الصين؟ لمَ لا نتحرك تحركات مماثلة ونبحث عن حقوقنا الضائعة؟ إلى متى نقف موقف المتفرج، وننتظر ما ستتمخض عنه تلك الحروب التجارية؟ لا أعتقد أن الأزمة قد انتهت، فالولايات المتحدة، وبعد أن حققت غرضها من ربط رقاب دول العالم بعملتها (الدولار)، ارتفع صوتها مجلجلاً الآن، وباتت تطالب الدول بتحرير سعر صرف عملتها أمام الدولار، وفي مقدمة تلك الدول الصين بطبيعة الحال، فهي لم تفعل ذلك مع دول الخليج... لماذا؟ بل رأينا كيف كان رد فعل مسؤولي الإدارة الأمريكية لمجرد شائعة سعي الإمارات لفك ارتباط عملتها بالدولار؟ هل نتذكر هذا؟ لا شك أنها المصلحة الأمريكية، وهذا حقهم وحق كل بلد في أن يبحث عما يحقق مصلحته ومصلحة مواطنيه. فالصين هي أكبر دائن للولايات المتحدة حالياً، وهي التي خرجت من الأزمة العالمية الراهنة أكثر قوة، ومنافساً قوياً، وقائداً محتملاً لمسيرة الاقتصاد العالمي، وهذا بالطبع على حساب الولايات المتحدة، التي أعلن رئيسها أخيرا، أنه لن يسمح للصين بقيادة العالم، وكأن المسألة تتم بقرار رئاسي أو أمر عسكري، إلا إذا تحولت بالفعل من حرب تجارية إلى حروب عسكرية. ولكنه الاقتصاد وقوة الاقتصاد، فالاقتصاد الأقوى هو الذي سيجلس على كرسي القيادة، وباتت الصين - بعد أن أصبحت أكبر مصدر في العالم، ومصنع العالم - أكثر تأهلاً في مواجهة اقتصاد أمريكي، تطغى عليه المضاربات، القطاعات الوهمية، في مقابل الصين التي تشكل فيها الصناعة حالياً نحو 50 في المائة من الناتج المحلي، في مقابل قطاع مالي لا تتعدى حصته 10 في المائة. علينا أن نقرأ الأرقام جيداً حتى نصل إلى تصور صائب لمستقبل الاقتصاد العالمي. المسألة بالنسبة لنا ليست تفضيل هذا على ذاك، ولكن أين موقفنا؟ فالعالم يمر بمرحلة مخاض تاريخية، ربما لن نعايشها إلا بعد أكثر من 100 عام، فهل نملك الإرادة والقدرة على دعم جهود تشكيل هذا النظام العالمي الجديد؟ الولايات المتحدة ليست الوحيدة المضارة من تقييد سعر صرف العملة الصينية، وليست الوحيدة المضارة من غزو المنتجات الصينية، كما أن الصين ليست الوحيدة المضارة من سيطرة الدولار، أو المشكلات التي سببتها الولايات المتحدة هناك وهناك بسبب توجهاتها العسكرية التي خلخلت الاقتصاد العالمي. فالصين ينطبق عليها تماماً المثل المصري العامي القائل ''لا أحبك ولكن لا أتحمل بعدك'' نعم... الصين تكره تقيدها بالدولار، الذي أجبرها أو اضطرها لأن تصبح أكبر دائن للولايات المتحدة. فالصينيون يدركون جيداً، ويقرؤون ما يكتبه الأمريكيون ''دع الصينيين يكدون ويتعبون، ويصدرون لنا سلعهم، ثم نعطيهم الدولار (المطابع تعمل ليل نهار)، ونستعيده منهم عندما نريد، ولن يستطيعوا مطالبتنا بتلك الدولارات مرة أخرى، وهكذا دواليك''. فالصينيون يدركون كل هذا، ولهذا علينا ألا نتوقع أن تفوت الصين هذه الفرصة التاريخية، فهي الفرصة التي قدمت لهم العالم على طبق ذهبي، ووضعت الولايات المتحدة في وضع ضعيف للغاية''، وعلينا أن ننتظر الكثير والكثير خلال السنوات القليلة المقبلة. وفي المقابل، علينا ألا نتوقع استسلاماً سريعاً من الولايات المتحدة، التي تذكرنا بالإمبراطورية التي لم تكن تغرب عنها الشمس (بريطانيا). فلن تستسلم الولايات المتحدة سريعاً، ولكنها ستقاوم قدوم التنين بكل ما أوتيت من قوة وبكل السبل، والولايات المتحدة تعرف الكثير من الأدوات لمهاجمة الصين.. ستستمر هذه المقاومة لفترة، وعلينا أن نتوقع خلافات شديدة قبل أن تُسلِم الولايات المتحدة بالأمر الواقع، وأن ترضخ لقيادة التنين. لن تموت الولايات المتحدة، ولكنها بعد أن كانت تشكل القطب الأوحد، ستصبح مفردة مهمة من مفردات العقد الدولي بزعامة الصين، وتلك الأيام نداولها بين الناس. أعود وأكرر، أين نحن، وإلى متى سنبقى نلعب دور المتفرج أو المفعول به وليس الفاعل؟ متى سنعبر عن قدراتنا وإمكاناتنا، ومن ثم نسهم مساهمة إيجابية في تشكيل هذا النظام العالمي الجديد؟ نحن لا نطالب بحرب مع الصين أو الولايات المتحدة، ولكن من حق العالم علينا أن يدرك أننا فاعلون مؤثرون في صنع القرار العالمي. إن الحرب التجارية الدائرة رحاها حالياً بين الصين والولايات المتحدة هي بداية لتصحيح أخطاء، سيكون في مقدمتها التخلص من سطوة الدولار، ومن ثم إزالة المبرر الذي دعا الصين لغزو أسواق العالم، ولكنها قد تكون بداية لتشكيل نظام عالمي أكثر ظلماً ما لم تتكاتف جهودنا، وما لم نعبر عن إرادتنا كدول فاعلة وقوى اقتصادية لا يستهان بها، فهل نملك الإرادة والقدرة على فعل شيء لحجز مكان لائق في منظومة الاقتصاد العالمي الجديد؟ والله الموفق.
إنشرها