Author

أزمة دبي.. رب ضارة نافعة!

|
شهدت إمارة دبي خلال السنوات العشر الماضية طفرة غير مسبوقة، ألهبت شهية الكثيرين في الدول المجاورة، وربما استثارت حسدهم. نعم.. لا يمكن لعاقل أن ينكر الطفرة الكبيرة التي شهدتها دبي، والتي تُعزى في المقام الأول والأخير إلى ''سياسة الانفتاح غير المحدود على الأصعدة كافة''. فقد آمنوا إيماناً مطلقاً بالحرية المطلقة، والتي لم يقتصر مداها على الحرية الاقتصادية أو التجارية، ولهذا وجد الكثير من المغامرين والمضاربين من مختلف دول العالم ضالتهم في دبي. في أقل من 15 عاماً تحولت دبي من مدينة ساكنة إلى مدينة حية توارى فيها المواطن، وطغى فيها الوجود الأجنبي في كل شيء، حتى بلغ الأمر بالبعض تسميتها بـ ''المدينة العالمية''. فقد ذابت فيها الهوية وذاب معها الكثير والكثير، ومن لا يستطيع الرؤية من الغربال فهو أعمى كما يقول المثل العامي. ومن جانبي، كمواطن عربي بسيط، كنت قد حذرت خلال لقاء لي عام 2006م مع الدكتور وليد الوهيب الرئيس التنفيذي للمؤسسة الدولية الإسلامية لتمويل التجارة، من أن نمو وانفتاح دبي غير الطبيعي لا بد أن يعقبه انهيار وأزمات غير طبيعية، فلكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومضاد له في الاتجاه! فمن يترك مصيره بيد الآخرين عليه أن يلاقي ما يستحق. في ظل العولمة الليبرالية، تخلت أغلب الأمم طوعاً عن الكثير مما كان يعد من ثوابت حقوقها تحت دعاوى الانفتاح، وها هي النتيجة، ''فقدان القدرة على درء الخطر'' بل الاستسلام والانصياع التام لاستقباله. فهذا هو ما حدث مع دبي بالضبط. بالتأكيد، لم نكن نتمنى لدبي أو لحلمها العظيم هذا المصير، كما أنها لن تكون النهاية لتجربة طموحة. ولكن أي إنسان عاقل كان عليه أن يتخوف من استمرار تمدد وانتفاخ البالون في دبي، حتى كانت القشة التي قصمت ظهر البعير ألا وهي الأزمة العالمية. كان علينا أن نترقب ونتوقع مشكلة كبرى لهذه الإمارة الصاخبة، التي آمنت - بل شكلت رمزاً - لمبادئ الحرية الاقتصادية، ودائماً ما كان يشار إليها على أنها مثل يحتذي في مجال التحرر الاقتصادي والتجاري والمالي. قيل هذا الكلام في وقت كان يُعَد فيه الحديث عن تقييد الحرية الاقتصادية ضرب من السفه والغباء والجهل بالمبادئ الاقتصادية. فأزمة دبي - دون الخوض في تفاصيل كثيرة - هي أزمة تابعة، أي من توابع الأزمة العالمية.. وهذا منطقي تماماً، ويتماشى مع المنطق الذي عرضنا له أعلاه. دبي أكثر مدن العالم انخراطاً في منظومة العولمة، سواءً بحسب المؤشرات العالمية أو كما يتحدث واقعها، حتى باتت ملاذاً ونقطة جذب لكبار اللاعبين في عالم الاقتصاد والتجارة في السلع والخدمات وأشياء أخرى! وعندما انهارت الأسواق في الولايات المتحدة وأوروبا، خسر الكثيرون، وكان من الطبيعي أن تنتقل عدواهم إلى دبي وغيرها من الدول الأكثر اقتراباً من المريض! وكانت النتيجة أن تراجع الطلب بصوره كافة. لذا، بدأت أغلب الشركات في المعاناة بسبب تراجع الطلب، وخاصة أن أغلب تلك الشركات (والأفراد) وسع أنشطته اعتماداً على الاقتراض من السوقين المحلية والدولية، وليس الصكوك الإسلامية كما ذكر البعض. فعندما يتوقف الطلب، ماذا علينا أن نتوقع؟ طبيعي أن تبدأ الشركات في التعثر ومن ثم العجز عن سداد أقساط القروض، وربما إشهار الإفلاس.. هذه هي مشكلة دبي لا أكثر ولا أقل. الآن، وبعد أن قُضِي الأمر، وحدث ما حدث، علينا التوقف عن البكاء على اللبن المسكوب، بل ينبغي أن نقول ''رب ضارة نافعة''. نعم.. عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم. وهذه رسالة إلى فريقين، الأول وهو الفريق الطموح في دبي، ونقول لهم، لا تحزنوا بل عليكم الاستيقاظ من وهم الحرية المطلقة. هي الفرصة لمراجعة الحسابات والاستفادة من دروس وأخطاء الماضي. هي الفرصة للبناء على ما أنجز ولكن على أسس موضوعية معتدلة. فالعبرة دائماً ليس بمن يصل أولاً ولكن بمن يواصل الرحلة (التنمية المستدامة). وفي الحقيقة، إن ما أنجزتموه في دبي خلال السنوات الماضية ارتكز في الأساس على التحرر التجاري والاقتصادي والمالي، ولكن هل تم تأهيل الإمارة لتنمية مستدامة ومستقرة؟ لا أعتقد، لأنه لو كان النمو طبيعياً لما حدث هذا الزلزال. أمامنا ماليزيا وغيرها من دول شرق وجنوب شرق آسيا التي عبرت الأزمة بسلام ولم تهتز قواعدها.. لماذا؟ لأنها انطلقت في مشروعها التنموي على أسس موضوعية، بدأت في بناء الإنسان وركائز ثابتة لتنمية مستدامة. وهنا يكمن الفرق بين المعجز أو التجربة الماليزية وتجربة دبي! بل إن دول شرق آسيا خرجت من أزمتها المالية عام 1997 أكثر قوة لتبدأ مع الصين تسطير تاريخ جديد مع العالم. فارق كبير بين النمو الفقاعي غير المستدام والنمو الحقيقي الذي يبني الإنسان قبل المكان، فنحن في مصر نؤمن بمثل خطير وهو ''ابني في ابنك قبل أن تبني لابنك!! أي قبل أن تشيد العمارات وتكدس الثروات لابنك، ركز أولاً على بناء ابنك، أي الإنسان! نقول رب ضارة نافعة أيضاً للدول المجاورة، وغيرها من الدول التي أبهرتها فورة دبي. كنتم قبل الأزمة تتعجبون وتتحسرون على حالكم وقدركم مقارنة بتجربة دبي وانطلاقها السريع، بل سعى بعضكم إلى تقليد التجربة ولم يحالفه الحظ.. الآن.. وبعد الأزمة، هل وصلتكم الرسالة؟ أكرر هنا أن تجربة دبي لم تكن شراً محضاً ولكنها انطوت على الكثير من الدروس المفيدة للجميع. فأنتم يا من كنتم تخططون للتخلي طوعاً عن الكثير من جوانب سيادتكم، ومن ثم تتركون مصائركم بأيدي غيركم، فكروا ملياً وتعلموا الدرس من دبي وما قبل دبي، بأن الحرية إن لم تحدها حدود وضوابط تصبح انفلاتاً، لا ينتظر منه إلا الكوارث. ففي ظل مبادئ الليبرالية الجديدة (والتي سبقت أيضاً أزمة كساد الثلاثينيات) تحولت الأمم إلى ما يشبه القشة أو الريشة في مهب الريح. لا يعني حديثي هذا أنني أدعو إلى العودة للاشتراكية كما ذكرت في مقال سابق، ولكن فقط تصحيح المفاهيم التحررية وتقييدها بضوابط صارمة حتى ولو كلفتنا، خاصة وأن تكلفة الضبط لا يمكن أن تقارن بتكاليف الأزمات المتلاحقة لليبرالية الجديدة، والتي أسدل الستار عنها بالأزمة العالمية الأخيرة. والله الموفق.
إنشرها