Author

عام «التعري» الاقتصادي!

|
كاتب اقتصادي [email protected]
«المتفائلون ينتظرون حتى منتصف الليل، ليشهدوا بداية السنة الجديدة. المتشائمون ينتظرون أيضا ليتأكدوا من أنها رحلت». الكاتب الأمريكي وليم فاوجهان أحسب أنه لا يوجد أحد في هذا العالم، يعارض ''حذف'' عام 2009، من ذاكرة التاريخ. وأحسب أيضا أن العالم كله يتمنى، لو أن مجموع سنوات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، يساوي تسعا، لا عشرا، وأن يقفز تسلسل الأعوام من 2008 إلى 2010 مباشرة، وأن يضيع عام 2009 من ملفات هذا الزمن وأوراقه. وأحسب أيضا.. وأيضا، أن الكبار والصغار.. الأثرياء والفقراء.. المتقدمين والناشئين - كل في موقعه وفي خضم ظروفه - سيحتفلون – من فرط سعادتهم – بعام مدمر رحل، لا بآخر مجهول آت. فمهما كانت سمات 2010، لن تكون أفظع من سابقه، ومهما كانت مصائب 2008، لن تكون بحجم ويلات تداعيات لاحقه 2009. وإذا كان الاقتصاديون درجوا على وصف الأيام التي تشهد انهيارا أو انخفاضا مريعا في الأسواق العالمية، بـ''السوداء''، يستطيع هؤلاء أن يصفوا 2009 دون تردد بالأسود، الذي جاء نتيجة الغليان الذاتي للون ''الأحمر الدموي'' الآتي من 2008. فهذا الأسود، هو اللون الوحيد الذي تكوَن نتيجة ''مزج'' الأحمر الدموي، بالأحمر الناري!. لكن هل تُشطب السنوات بالتمنيات والقرارات؟ وهل تزول الآلام بالتجاهل والانصراف عنها؟. وهل يمكن أن تُمحى المصائب بكراهيتها فقط؟. وهل بالإمكان استبدال واقع أسود، بوهم أبيض؟!. نعم لا أحد يريد تكرارا للعام 2009، لكنه في النهاية هو امتداد لـ ''عام الكارثة''، وسابق لعام يصعب تحديد ملامحه، حتى في زحمة التطمينات التي تطلق هنا وهناك، بأن الأزمة الاقتصادية العالمية، بدأت بالخروج من عنق الزجاجة، وأن الانتعاش آتٍ في طريقه. فالحمم التي قذفتها هذه الأزمة في عام 2008، غطت العام الذي لحقه، دون أي إشارات على استقرارها فيه فقط. فلا تزال الحرب المضادة التي يشنها العالم ضد الأزمة، دفاعية، ولم تدخل مرحلتها الهجومية بعد، ولا تزال هذه الحرب عبارة عن مجموعة معارك مفتوحة. ولأنها كذلك، فهي مرشحة للاستمرار في عام 2010، الذي يتمنى العالم ألا يشبه سابقه، ولا ينقل العدوى منه. لماذا؟، لأن الأزمة العالمية، لم تُخلف ''إنفلونزا'' يمكن تحضير لقاح للقضاء عليها، ولا ''حُمى قلاعية''، يمكن مواجهتها بالحجر الصحي (كرنتينا)، ولا وباء ''جنون بقر''، يمكن إعدام أعداد من الماشية المصابة لاحتوائه، بل نشرت سرطانا، لا ينفع معه لقاح، ولا حجْر، ولا إعدام. سرطان لا دواء يحاربه سوى الاستئصال. عام 2009 يمضي.. ولا يمضي!. يزول رقما، لكنه يبقى هما، وجرحا نازفا في هيكلية الاقتصاد العالمي، والمجتمع الذي يكوُنه. كان عام التداعيات والانهيارات، والإفلاس والإغلاق، والهموم والأوجاع، والتراجع والانخفاض. كان عام الجوع والفقر.. البطالة والأمية.. المحتالين والجشعين.. الديون والتشرد. كان عام ''القومية الاقتصادية'' المتحجرة، و''الوطنية المالية'' الصلفة. كان عام.. حتى الطلاق والتشتت الأسري. لكن في النهاية كان 2009 عام الحقيقة المتأخرة. ولو ظهرت هذه الأخيرة مبكرا، ربما كان 2009 عاما ككل الأعوام، التي تأتي وتهرب وسط زحام السنوات وتدافعها، أو كتلك التي تُذكر برقمها لا بقيمتها. هذه الحقيقة تأخرت أكثر من عقدين من الزمن، لا سنة ولا اثنتين ولا ثلاثا. حقيقة.. كانت مدفونة تحت أرجل ''المُلهمين الاقتصاديين''، الذين قدسوا السوق، واستحقروا المجتمع، وبعضهم من ألغى هذا الأخير، كأداة من أدوات وجود الحياة أصلا!. ''المُلهمون'' الذين كانوا يسخرون ممن كان يحذر، من فداحة تجاوز السوق للمجتمع، ومن قدسية الأموال الوهمية. ولسان حال هؤلاء كان يقول :''لا صوت يعلو فوق صوت السوق''!، ولا مكان لمن يريد أن يجعل من المجتمع بوصلة للسوق. فهذه الأخيرة – بالنسبة لهؤلاء- هي البوصلة والربان.. وحتى نجوم السماء المرشدة للملاحين. وعلى هذا الأساس، حوَل ''مقامرو الاقتصاد'' المجتمع إلى سلعة تُنتج في مصانعهم!. في عام 2009، تأكد العالم أن عجلة الاقتصاد العالمي، كانت تدور بأموال وهمية، لا وجود لها في الواقع، وأن ثروة العالم الحقيقية – بما في ذلك تلك المدفونة تحت ''البلاطة''- ليست أكثر من نصف ما يدار في الأسواق ويشكل وقودا لها. ولأنها كذلك، فقد توالت الانهيارات، بعد انفجار الفقاعات، وتداعت الصروح التي توهم ''المقامرون'' بأن قوة لم توجد على الأرض بعد يمكن أن تهزها!. لم يعد في 2009 مناعة لأي صرح كان، مهما كانت منغرسا في هيكلية البناء الاقتصادي. حتى الحكومات.. انهار بعضها، واهتز بعضها الآخر، وتحولت حكومات، إلى ''ملاكم'' يتهاوى على الحلبة، أمله الوحيد أن يعلن الحكم وقف المباراة!. لكن .. أين هو هذا الحكم الذي بإمكانه، أن يوقف ''مباراة الأزمة الاقتصادية''؟!. فهذه الأخيرة، خربت المشهد، إلى درجة جعلت ''الحكم'' نفسه يستجدي إيقافا عاجلا واستثنائيا للمباراة!. لقد عرَى 2009 كل الذين كانوا ''مدججين'' بالملابس، خصوصا أولئك الذين كانوا يستعرضون بملابسهم الـ ''سينييه''، بعد أن حفِل 2008 ببداية ''مهرجان العري الاقتصادي''. وتساوى هؤلاء -لوهلة من الزمن- مع أولئك العراة أصلا، من فرط غياب العدالة الدولية. فالكبير لم يعد كبيرا. وإذا كان قد احتفظ برقمه الكبير، إلا أنه فقد من الهيبة، ما يوازي الرقم قيمة. وضَح عام 2009 الصورة الحقيقية للجميع، وأظهر الوزن الفعلي لكل لاعب على الساحة. وتبين أن بعض أصحاب الأوزان الثقيلة، لم تكن أوزانهم في الواقع أثقل ''وزن الريشة''، لكن الاقتصاد الوهمي، أفسح لهم المجال، لخوض مباريات في الوزن الثقيل. ماذا حدث؟، كانت اللكمة الموجهة إليهم، تساوي أضعاف قدرتهم على الصمود حتى في الجولة الأولى!. في عام 2009 ضخت الحكومات حول العالم، ما يزيد على 20 تريليون دولار أمريكي، في اقتصاداتها، للحفاظ على مؤسساتها، وحمايتها من الانهيار، لكنها لم تستطع إنقاذ كل المؤسسات والشركات والمصارف، التي باتت تتهاوى الواحدة تلو الأخرى، في مشهد تاريخي فريد. فقد أصبح – على سبيل المثال – إغلاق المصارف في الولايات المتحدة الأمريكية (في عام 2009 بلغت 139 مصرفا)، خبرا يوميا أو أسبوعيا عاديا!، وبات ارتفاع عدد العاطلين عن العمل – في الولايات المتحدة وغيرها – خبرا مملا!، وصار تأميم هذه المؤسسة أو تلك، مثل خبر منشور في جريدة '' البرافدا'' الروسية، قبل ''وفاة'' الاتحاد السوفياتي السابق!. وحتى العجز في الموازنات العامة، انسحب من مقدمة الأخبار، إلى ذيلها. لقد غير عام 2009 – بفعل الأزمة الاقتصادية طبعا - نظرة العالم أجمع للأرقام. لم يعد المليار دولار أمريكي رقما صعبا، بعد أن فقد هالته!. فعندما تكون الخسائر بالتريليونات، يبدو معها ذلك المليار، كمبلغ لـ ''التسوق الأسبوعي''!، وعندما تسحب الأموال وهميا، تفقد قيمتها، وتتساوى المبالغ!. لكن الأمر، ليس كذلك عندما يكون الحديث عن البشر. والخبر في هذا السياق، ليس عاديا، أو مملا. فعام 2009 شهد – من ضمن ما شهد – تحولات اجتماعية ومعيشية كارثية، ستبقى ملازمة للمجتمع الدولي، حتى بعد تمكنه من عبور'' نفق الأزمة''. فقد تحول الفقراء إلى جياع.. وهؤلاء إلى موتى، أو مشاريع موتى!. وهذه وحدها تحتاج إلى خطط إنقاذ تحسب بالعقود.. لا بالسنوات، إذا ما رغب المجتمع الدولي، في أعوام جديدة خالية من المصائب، ومن موروثات الجوع. وتحقيق منجزات في هذه القضية المتعاظمة، أو ما يشابهها، لن يتم بذهنية ما قبل 2009، بل برؤية العقود التسعة المتبقية في القرن الحادي والعشرين. لقد أتى عام 2009، بحقيقة متأخرة، بعد أعوام من أخلاق غائبة.
إنشرها