Author

الأثرياء المدينون!

|
كاتب اقتصادي [email protected]
«نحن ننسى دائما أن المال يعني الثراء، وأن الديون تعني المال أيضا». الكاتب الفنلندي بيتر كاجاندير تستطيع الدول الفقيرة أو النامية أو الناشئة (التوصيف لم يعد مهما) الغارقة في الديون الخارجية – والداخلية إن وجدت - أن '' تفخر'' بانضمام الدول الدائنة إلى ''ناديها'' الكبير الأكثر نشاطا هذه الأيام في ضم الأعضاء. وتستطيع - ولو للحظة – أن تقول: ''ما فيش حد أحسن من حد''، لأن الغني والفقير بات يجمعهما ''قاسم الديون المشترك''، بصرف النظر عن حجم الدَين وطبيعته، أو عن هوية الجهات المقرضة، أو عن ضعف المقترض قوته. فالتحولات التي ''ابتكرتها'' الأزمة الاقتصادية العالمية، أفرغت الاستغراب من أدواته، من فرط تأثير صدماتها ''النوعية'' المتتالية. فالذي كان يشكل مفارقة، أصبح بعد الأزمة، جزءا من البديهيات، خصوصا عندما يصبح المستحيل ممكنا، والممكن مستحيلا!. وفي خضم هذا المشهد المرشح للاستمرار لأجل غير مسمى، لم تعد الديون ''نخبوية'' من الجهة السفلى لقائمة دول العالم، بل شملت كل دول القائمة، وساوت – مع اختلافات القوة وطبيعة الديون – بين دول كزيمبابوي، أو كينيا أو لبنان أو جامايكا، وبين دول كالولايات المتحدة أو بريطانيا أو ألمانيا أو فرنسا!. وعلى هذا الأساس، يستطيع روبرت موغابي رئيس زيمبابوي – حتى الموت – أن يقول ساخرا، لـ ''زميله'' باراك أوباما الرئيس الأمريكي – حتى سقوطه في الانتخابات: ''أنت مَدين وأنا كذلك''!. مهما كان شكل الدَين - خارجي أم داخلي -لا يخرج عن نطاق المصيبة المستمرة، طالما استمر دَينا، وتعاظم حجما، وزادت قيوده إحكاما. الديون هي أبشع أنواع الفقر، وهي آلة من آلات ''عبودية الأحرار''. والدَين الصغير، ''ينتج'' دائنا، أما الدَين الكبير فلا ''ينتج'' إلا عدواً. وللرئيس الثالث للولايات المتحدة توماس جيفرسون، توصيف بليغ للدَين. فهو يقول:'' لا تنفق الأموال قبل أن تحصل عليها''. ولمصائب الديون درجات أيضا. فالمَدين الذي لا يملك شيئا، لن يملك إلا ديونا متعاظمة عليه، أما الآخر الذي يمتلك بعضا من شيء، سيتنفس قليلا، وإن كان يستحيل عليه التخلص من قيود وسلاسل الديون. لن أتناول هنا قضية ديون الدول الفقيرة. فهذه الديون حاضرة بصورة دائمة في كل الأزمنة. ومتأصلة ليس فقط على صعيد القيود، بل من جهة المعاناة والمشاكل الاجتماعية والصحية والتعليمية وبالطبع التنموية، ولاسيما بعدما تحولت إلى ''أسرع سرطان'' في هيكلية هذه الدول. لكن المثير للاهتمام والمراقبة، تلك الديون التي تعيش بها وعليها الدول الثرية الكبرى، والتي تحولت – مع الأزمة الاقتصادية – إلى جرح نازف، وجدت حكومات هذه الدول صعوبة – بل لنقل: استحالة- تضميده!. ومن المفارقات – التي لم تعد تصدم- أن الدول التي تحتل رأس قائمة البلدان الدائنة، هي في الواقع بلدان لا تقوى على الاستمرار إلا بالديون!. وعلى الرغم من أن أغلبية هذه الدول، كانت تلجأ إلى بعض الاقتراض المحلي أو ما يعرف بالإنجليزية (الأمريكية) public debt وبالإنجليزية (البريطانية) national debt ، للإيفاء بالتزامات موازناتها العامة، إلا أنها – مرة أخرى بعد الأزمة – باتت تقترض محليا (أو وطنيا) لتغطي كل نفقات هذه الموازنات، إلى درجة أصبحت معها ديونها، تتساوى أحيانا - وتفوق في أحيان أخرى - مع مجموع الناتج المحلي لأغلبية الدول الثرية!. وهذا يعني أنها يجب ألا تنفق دولارا واحدا لمدة عام كامل لتسديد دَينها العام، وبعض هذه الدول، عليها ألا تنفق لمدة عام ونصف العام، لتحقيق الهدف ذاته. وطبقا لمنظمة ''التعاون والتنمية الاقتصادية''، فإن الدول الثلاثين الأكثر تقدما في العالم، ستشهد ارتفاعا في ديونها 100 في المائة، من إجمالي ناتجها المحلي في عام 2010، وهو ما يمثل ضعفي ديونها تقريبا في غضون 20 عاما! لقد ارتفعت مديونيات الدول الثرية بصورة جنونية، لأسباب عديدة، في مقدمتها: ارتفاع النفقات العامة، بما في ذلك الأموال التي ضُخت في الشركات والمؤسسات المالية الكبرى منعا لانهيارها، في أعقاب الأزمة الاقتصادية (بريطانيا وحدها أنفقت حتى الآن أكثر من 850 مليار جنيه استرليني على خطط الإنقاذ، بينها 131 مليار جنيه لإنقاذ المصارف)، وأيضا تراجع العوائد الضريبية نتيجة الكساد العارم وتردي حركة الاقتصاد بشكل عام، فضلا عن الدعم العام للاقتصادات الوطنية في مواجهة الأزمة. وتعطي الأرقام صورة واقعية ومرعبة في آن معا، لديون الدول المتقدمة – الثرية. فعلى سبيل المثال يصل حجم الدَين الحكومي في بريطانيا إلى 56.8 في المائة من حجم ناتجها المحلي، وقفز دَين الولايات المتحدة إلى 92 في المائة تقريبا من ناتجها، وفرنسا إلى 72 في المائة، وإيطاليا 127 في المائة، وألمانيا أكثر من 62 في المائة. والصدمة الكبرى، أن الدَين الحكومي الياباني بلغ حاليا أكثر من 170 في المائة من ناتج البلاد المحلي، ومرشح للوصول قريبا إلى 200 في المائة! وإذا كانت الديون تشكل مصدر تهديد لعديد من الدول غير الراسخة، فإن ديون الدول الثرية، تمثل أقوى عوامل عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي فيها. وعلى الرغم من سمعتها ومكانتها الدولية، وإمساكها بزمام صنع القرار الاقتصادي العالمي، إلى جانب عدد جديد من الدول المؤثرة، إلا أن هذا لن يضمن الحفاظ على مستوى سمعتها إلى الأبد. فالأسواق العالمية المؤثرة، لم تصل بعد إلى مرحلة الشك في قدرة الدول المتقدمة على تسديد ديونها، وعندما تدخل هذه البلدان ضمن دائرة الشك المخيفة، فمن الطبيعي أن تتحول الأسواق عن أسهم الدول المعنية العامة (سندات الخزانة)، وبالتالي سيتوقف الإمداد بالأموال السائلة! وهنا ستتغير التصنيفات والتقييمات، تماما مثلما تتغير حيال العديد من البلدان النامية أو الناشئة. والمصيبة الأكبر، هي أن الحلول المطروحة – أو الممكنة – ليس كثيرة. وفي الواقع لا تزيد هذه الحلول عن حلَين اثنين. الأول: زيادة الضرائب. والآخر: تخفيض النفقات العامة. هذان الحلان، هما أسوأ الحلول بالنسبة لحكومات الدول المتقدمة، ولاسيما الضعيفة سياسيا وانتخابيا منها. فهي إن رفعت الضرائب، أغضبت أصحاب الأموال – إن وجدوا في هذه الأيام، وإن خفضت الإنفاق، استشاط ناخبها غضبا يصعب وصفه، خصوصا في مواسم الانتخابات. إنها قضية متفجرة، لا تنفع معها ''التطمينات'' ببداية خروج الاقتصاد العالمي من عنق الزجاجة، أو من براثن الأزمة الاقتصادية العالمية. كما أنها بمثابة جرح مفتوح، فشلت الحكومات الثرية الغارقة في الديون، في العثور على ''جرَاح'' يلملمه. والذي يزيد ''الطين بلة''، أنه جرح يتوسع على مدار الساعة. فعلى سبيل المثال، يرتفع الدَين العام في الولايات المتحدة، بمعدل 3.79 مليار دولار أمريكي في اليوم الواحد، منذ أيلول (سبتمبر) من عام 2007!! وفي هذا البلد تحديدا، تبلغ حصة الفرد الأمريكي من الدَين العام 39 ألفا و110 دولارات و35 سنتا أمريكيا! يقول الرئيس الأمريكي باراك أوباما: ''فور تمكننا من الخروج من الأزمة، علينا أن نضع خطة على المدى البعيد، للتخلص من العجز في الموازنة العامة، لكي لا نتركها للجيل المقبل''. والواقع أن هذا النوع من الديون، يخص الجيل الحالي، تماما كما يخص الجيل المقبل، الذي لا ذنب له في تكدسها. فهي ديون متوارثة، مثلما هو حالها في الدول الفقيرة. ولعل هذه الأخيرة، تشعر بنوع ما من المواساة، بوجود قاسم مشترك بينها وبين البلدان الثرية. فالأفراد في كلتا الجهتين يعانون المديونية، مع فارق كبير بالطبع، يتمثل في أن الذين يعيشون في الدول المتقدمة، يعرفون أن يوما جديدا سيشهدونه غدا، لكن ''أقرانهم'' الذين يعيشون في الدول المعاكسة، لا يعرفون إذا ما كان ليومهم الذي يعيشونه غد.
إنشرها