FINANCIAL TIMES

حكومة لولا دا سلفا تنتشل 30 مليون برازيلي من براثن الفقر

حكومة لولا دا سلفا تنتشل 30 مليون برازيلي من براثن الفقر

لويس أناسيو لولا دا سلفا في كامل حيويته. وجهه يشع بريقاً وسيجاره المفضل في يده، يتذكر الرئيس البرازيلي بمنتهى الحبور اليوم الذي قال فيه لا لصندوق النقد الدولي. «اتصلت (برودريغو) دي راتو (مدير عام الصندوق) وقلت له إنني لا أريد أمواله. فشعر بانزعاج شديد». يطلق ضحكة ويستأنف قائلاً: «قال راتو: ولكن إقراض البرازيل يهمني حقاً». بالنسبة لـ لولا دا سلفا وأبناء بلده البالغ عددهم 190 مليوناً، فإن ذكرى توجه البرازيل بصورة منتظمة وهي مكبلة اليدين إلى صندوق النقد الدولي ما زالت تعتمل في الصدور. فمنذ عقد فقط، اضطرت البرازيل في أعقاب الأزمة المالية التي عصفت بالدول الآسيوية وبروسيا إلى خفض قيمة عملتها الريال، وإلى طلب قروض طارئة من صندوق النقد الدولي. أما الآن فقد انقلبت الطاولات. يقول عامل المخرطة السابق ابن الرابعة والستين والذي انتخب رئيساً لأول مرة في عام 2002: «كنا واحداً من آخر البلدان التي دخلت في الأزمة العالمية، وواحداً من أول الخارجين منها». وبالنسبة للعام المقبل، وهو آخر عام له في منصبه، فإنه على ثقة بأن اقتصاد البرازيل سوف ينمو بأكثر من 5 في المائة وهو معدل صحي. «منذ فترة ليست بعيدة، كنت أحلم في أن نراكم 100 مليار دولار على شكل احتياطيات بالعملات الأجنبية»، قال هذا وما زالت ابتسامة عريضة ترتسم على شفتيه. «وعما قريب سيكون لدينا 300 مليار دولار (ما يعادل 202 مليار يورو، 180 مليار جنيه إسترليني)». خلال مقابلة استمرت ساعة معه في لندن، حيث يرافقه عشرة من كبار الوزراء، والمصرفيين ورجال الأعمال، تحدث لولا دا سلفا عن البرازيل كبلد تحول بمعجزة اقتصادية. فالتضخم تحت السيطرة، وأسعار الفائدة التي حلقت إلى عنان السماء في السابق انخفضت إلى مستوياتها العالمية الحقيقية، وأسواق رأس المال التي انتعشت تساعد في تمويل الاستثمار. وعملت برامج تحويل الدخل على جلب ملايين الناس إلى السوق الاستهلاكية. وفي أوج الأزمة العالمية، حافظت الحكومة على حركة المبيعات بإجراء تخفيضات ضريبية على السيارات والأدوات الكهربائية المنزلية وعلى مواد البناء. وتم اختيار البرازيل قبل عام لاستضافة كأس العالم في عام 2014، وفي الشهر الماضي تم اختيارها لاستضافة دورة الألعاب الأولمبية لعام 2016، ما ترك الكثيرين يشعرون أخيراً أن زمن بلدهم قد أتى. غير أن السؤال هو ما إذا كان تعافي البرازيل الذي يعزى الفضل فيه لارتفاع أسعار السلع قابلاً للدوام. إذ يخشى كثير من المحللين أن تدفق السيولة الذي يعمل على رفع قيمة الأصول البرازيلية – ارتفعت عملة البلد بنحو 36 في المائة مقابل الدولار هذا العام، وارتفعت الأسهم بنسبة 135 في المائة مقومة بالدولار – يمكن أن يتراجع بالسهولة نفسها إذا دخلت الأزمة العالمية في مرحلة ثانية. كما أن تزايد الإنفاق الحكومي على رفاه المجتمع وعلى مرتبات القطاع العام واللذين يصعب التراجع عنهما يمكن أن يكون قنبلة مالية موقوتة. يشير لولا دا سلفا إلى قصته الشخصية كدليل على أن بلده مر بمرحلة تغيير لا يمكن عكسه. ذلك أنه مهاجر فقير من شمال شرق البلد، بدأ حياته السياسية في مدينة ساو باولو كزعيم لإحدى النقابات المهنية. وبعد قيامه بتأسيس حزب العمال، استغرق الأمر منه ثلاث محاولات فاشلة على مدى 12 عاماً قبل أن يفوز بمنصب الرئاسة. «هذه مدة كافية لكي ينضج المرشح. وكنت أنا الشخص الوحيد الذي لا يستطيع أن يفشل. لم يكن باستطاعتي أن أفعل كما فعل (ليخ) فاليسا في بولندا (في ولاية غير مؤثرة لدرجة أنه فشل في إعادة انتخابه لولاية ثانية) وإلا فلن يعاد انتخاب أي عامل لمنصب الرئاسة مرة أخرى». خلال الفترة ما بين انتخابه وتوليه مهام منصبه، كتب لولا دا سلفا «خطاباً للشعب البرازيلي» أكد لهم فيه أن حكومته سوف تحترم جميع العقود وتتجنب المغامرة. وكانت تلك الرسالة موجهة بالقدر نفسه للمستثمرين الأجانب ــ وقد حققت الهدف منها. فقد عاد رأس المال الأجنبي الذي كان قد هرب من البلد خشية أن يلجأ الرئيس اليساري إلى الإسراف في الإنفاق على نحو ينتهي بالعجز عن سداد الديون. رفضت إدارة لولا أيضاً أن تخرق العقود المبرمة أو أن تلغي سياسات مواجهة التضخم التي ورثتها عن خلفه المعتدل فيرناندو هنريك كاردوسو. وقد طعن بعض مؤيدي الرئيس من الجناح اليساري في عمليات الخصخصة التي قام بها كاردوسو، غير أن المحاكم ــ التي كانت تعرف باتخاذ مواقف متقلبة غير موضوعية ــ أيدت القانون باستمرار. وقد أثبتت المؤسسات الأخرى أنها قوية على نحو مشابه، ما ساعد البرازيل على اكتساب سمعة البلد الذي يمكن الوثوق به والاعتماد عليه في قارة كثيرة التقلب. الرئيس لولا دا سلفا لا يذكر كاردوسو بالإسم رغم أن كثيرين يرجعون له الفضل في تحقيق الاستقرار لاقتصاد البرازيل العاصف. بل يقول إن الرؤساء الذين سبقوه حكموا لمصلحة 40 في المائة من البرازيليين وليس لصالح الأمة بأكملها. وزيادة على ذلك، فإن الذين شعروا بالقلق من أن انتخابه في عام 2002 قد ينذر بتحول إلى الشعبوية اليسارية، ببساطة لم يفهموه. «كنت أعمل بشكل مفرط ولدي إيمان راسخ بأنني لا أستطيع أن أرتكب أية أخطاء.» وتمثل أحد إنجازاته الأخرى بالتوسع بشكل كبير في برامج تحويل الدخل التي تدفع مخصصات للفقراء، وعادة ما يكون هؤلاء من الأمهات – لكي يواصل أبناؤهم الذهاب إلى المدارس والتأكد من إجراء فحوص طبية لهم. إن المبالغ التي تدفع كمنح للعائلات هي مبالغ صغيرة – تتراوح من 22 ريالاً في الشهر إلى 200 ريال كحد أعلى للعائلة الواحدة ــ وتكلف أقل من 1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للبلد. ولكنها تصل إلى 11 مليون عائلة. وكما هي عادته، فإن لولا دا سلفا يستشهد بحكاية شعبية لكي يوضح الحجة الأكبر بشأن التحول الذي حدث في بلده. فقد قابل في الآونة الأخيرة امرأة في شمال شرق البرازيل المجدب كانت قد اقترضت منذ عام مبلغ 50 ريالاً من إحدى صديقاتها لكي تصنع المعجنات لعمال البناء الذين يعملون في أحد مشاريع البنى التحتية الرائدة التي تنفذها الحكومة. ومنذ ذلك الوقت، بنت تلك المرأة شركة كبيرة للتغذية تدفع ضربة دخل سنوية قدرها 5,000 ريال (ما يعادل 2,900 دولار، 1,750 جنيه استرليني، 1,960 يورو). يمسك الرئيس بذراع الشخص الذي أجرى المقابلة معه ويعلق بحرارة وفخر بأن هذه المرأة نموذج للثلاثين مليون برازيلي الذين خرجوا من براثن الفقر وللعشرين مليوناً الذين انضموا إلى الطبقة المتوسطة خلال الأعوام الخمسة الماضية. لن ينسى لولا دا سلفا جذوره، ومع اقتراب ولايته الثانية من نهايتها يستشف بعض منتقديه إشارات على احتمال عودته إلى غرائزه اليسارية. ذلك أن الخطط الخاصة بحقول النفط التي يمكن أن تكون هائلة والتي تم اكتشافها في المياه البرازيلية في عام 2007، تتضمن تأسيس شركة مملوكة بالكامل للحكومة لكي تتولى الإشراف على عقود الإنتاج. ويمكن أن يؤثر هذا على اضطلاع الدولة بدور أكبر بكثير. كما الضغط الذي مورس أخيراً على شركة فيل Vale العملاقة للتعدين والتي تمت خصخصتها في عام 1997 لكي تعدل خططها الاستثمارية على نحو يتناسب مع سياسة الحكومة آثار المخاوف في بعض الدوائر. ويرد الرئيس على هذا النقد بدفاع غير نمطي: «أشك في أن يكون القطاع الخاص قد حظي في أي وقت في التاريخ البرازيلي باحترام الدولة أكثر مما يحظى به حالياً، أو أنه جنى أموالاً أكثر مما يجنيه الآن. إن ما أطلبه من شركة فيل هو أن تحول خام الحديد إلى صلب في البرازيل وأن تشتري البواخر من أحواض بناء السفن البرازيلية». هذا الوطني الاقتصادي يشعر بقدر أكثر من الراحة لدى سؤاله عن دور الدولة في الاقتصاد. يقول الرئيس في هذا الصدد: «لقد انتهى النقاش المعتاد حول دور الدولة بسبب الأزمة العالمية. وكان الناس يقولون منذ زمن طويل بأن الدولة قد فشلت وأن الأسواق يمكن أن تحكم كل شيء». ويضيف قائلاً: «إنني أعارض أن تكون الدولة مديراً للاقتصاد. ينبغي أن تكون الدولة قوية ــ ولكن كمحفز للتنمية. وقد أدرنا سياسات مالية ونقدية سليمة. وهذا هو السبب في عدم انهيار القطاع المصرفي أثناء الأزمة». وصرح لولا دا سلفا في العام الماضي أن الأزمة المالية العالمية حدثت بسبب أخطاء المصرفيين الشقر ذوي العيون الزرقاء في «وال ستريت» في نيويورك و»ذي سيتي» في لندن. وعندما تقول «فاينانشال تايمز» أن بلده تجنب أسوأ نتائج الأزمة لأن البرازيل تدير عجزاً سببه الشقر ذوو العيون الزرقاء، تندلع موجة من الضحك في أوساط حاشيته. غير أن الرئيس نفسه يظل رزيناً. ويستطرد الرئيس لولا قائلاً: «كنت أرد على الملاحظات الصادرة عن أشخاص ألقوا مسؤولية الأزمة على المهاجرين. إن الناس الفقراء في إفريقيا وحول العالم سوف يدفعون الثمن بسبب الأزمة رغم أنهم لم يتسببوا فيها. وتقول البلدان الغنية إنها لا تستطيع أن تمول برامج تخفيف حدة الفقر في البلدان النامية. ولكنها وجدت المليارات من أجل إنقاذ بنوكها. ولو أنها قدمت بعض تلك المبالغ على شكل مساعدات للبلدان الفقيرة، لكان العالم مكاناً أفضل.» لقد تحولت علاقات البرازيل مع بقية العالم تحت إدارة لولا بعيداً عن الشركاء والحلفاء التجاريين التقليديين كالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لصالح تنويع التجارة وتشكيل روابط مع أنحاء أخرى من العالم كآسيا ومنطقة الشرق الأوسط وإفريقيا. وأصبحت الصين أكبر شريك تجاري واحد لها. اتبع الرئيس لولا داسلفا سياسة «مصادقة الجميع» التي تتضمن إقامة علاقات مع نظراء بينهم الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، ومع الرئيس الفنزويلي هوجو شافيز، وكلاهما يعتبر بعبعاً في واشنطن. ويرى بعض المنتقدين أن سياسة الرئيس البرازيلي الخارجية تتسم بالسذاجة ولكنه لا يقبل هذا القول. ويقول في هذا السياق: «أفكر في الوقت الذي جعل فيه نكسون الصين الشريك التجاري الذي يحظى بالمعاملة الأفضل. إنني أؤمن بالتعايش مع التنويع. ليس لدينا الحق في أن نعتقد بأن على الآخرين أن يفكروا مثلنا. لدينا علاقات ممتازة مع كولومبيا والبيرو (يمين الوسط) ومع فنزويلا وبوليفيا (الجناح اليساري). ولا يمكنك أن تدفع الناس إلى الزاوية». ولدى الرئيس أيضاً إيمان متقد بمستقبل مجموعة الـ»بريكس» BRICs ــ التي تضم البرازيل، و روسيا، والهند والصين ــ وهي الفكرة التي خرج بها بنك جولدمان ساكس الاستثماري. وقد أدى ذلك إلى قيام زعماء البلدان الأربعة بعقد اجتماعات منتظمة، ومن المقرر أن يعقد الاجتماع المقبل في العام المقبل في مدينة ساو باولو. بيد أن كثيرين يعتقدون أن مصالح دول هذه المجموعة متنوعة جداً وحتى متعارضة لدرجة تحول دون تشكيل مجموعة ذات مغزى. يقول لولا دا سلفا مبتسماً: «الأمر شبيه بملاقاتك لصديقة جديدة. فإذا نظرت إلى عيوبها فقط، فلن تصل إلى أي مكان. ولكن إذا نظرت إلى الجانب المشرق فيمكن أن ينتهي الأمر بكما بالزواج». وهو يرى إلهاما في نموذج الاتحاد الأوروبي، ملاحظاً أنه منذ جيلين فقط كانت فرنسا وألمانيا في حالة حرب. «بهذه الطريقة سوف نبني تحالفاً قوياً بين بلدان مجموعة البريكس. في أول اجتماع عقدناه، اقترحت أن نبدأ بتداول عملات بلداننا. إننا لسنا في حاجة إلى الدولار. إنه لا يعدو كونه أمراً ثقافياً ويمكن أن يتغير». وحيث إن الانتخابات سوف تجري في شهر تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، فقد تجنب لولا دا سلفا إغراء السعي لولاية ثالثة على التوالي لأن ذلك يستلزم تغيير الدستور. يشار إلى أن زعماء آخرين في أمريكا اللاتينية، وخاصة في كولومبيا وفنزويلا يدرسون أو يدفعون تجاه ادخال هذه التغييرات لإطالة مدة بقائهم في السلطة. إلا أن الرئيس يقول إنه لم يفكر قط في أن يصبح دكتاتوراً عسكرياً آخر. ويقول في هذا الصدد: «كنت خائفاً حتى من الترشح لولاية ثانية، لأنني أذكر ما حدث لسلفي فيرناندو هنريك كاردوسو (الذي كانت ولايته الثانية أقل نجاحاً من ولايته الأولى) «. وفي الحقيقة، فإن الرئيس يحضّر فعلاً لتعزيز إرثه السياسي من خلال اختيار خليفته، وهي رئيسة وزرائه دِلما روسيف. سوف تواجه روسيف صعوبة كبيرة في محاكات لولا دا سلفا، من ناحية لأنها تفتقر إلى شخصيته الجاذبة ومن ناحية أخرى لأنه يتوجب عليها أن تحافظ على تماسك ائتلاف واسع لأحزاب متعارضة في أغلب الأحيان والذي بدأ يظهر علامات على وجود خلافات بين أعضائه. وقد تم إسقاط واحد أو اثنين من المرشحين المحتملين من حزبه بسبب تورطهما في فضائح تتعلق بالفساد. أما المرأة القوية الأخرى، وهي مارينا سلفا، وزيرة البيئة السابقة في حكومته، فقد انشقت إلى حزب الخضر. يقول لولا دا سلفا: «التحالف سوف يتماسك ونحن نعمل على تقويته. ولدينا مرشحة ممتازة ..... فإذا وقع اختياري على دلما، فإن إسهامي الكبير سوف يتمثل في تمكينها من خلق الأسلوب الخاص بها». وأثناء المقابلة وفي الخطابات التي ألقيت في لندن في اليوم التالي، أشار الرئيس وزملاؤه مراراً وتكراراً للنكتة القديمة التي كانت تدعي أن البرازيل هو بلد المستقبل والأمنيات. أما الآن فإنهم يعبرون عن ثقة جديدة. فالبرازيل ليست فقط بلد الحاضر»، يقول الرئيس، «بل إنها تعيش لحظة سحرية حقاً».
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES