Author

معالي الشيخ سليمان الفالح.. موسوعة في الحكمة والخلق الرفيع

|

رئيس المعهد الدولي للطاقة والبئية والتوقعات الاستراتيجية

[email protected]

 

يسمع الإنسان ويقرأ عن شخصيات تاريخية فذة وخارقة عاشت في حقب تاريخية سابقة، وتلهمه تجارب تلك الشخصيات بالاستمتاع الذهني لمواقفها ولكن الأمر يختلف في تجسيد تلك الشخصيات والانبهار بها لو أنه عاصرها ورآها وتحدث معها، فالشخصيات التاريخية الخارقة التي لم نعاصرها تبقى في مكان بعيد في مخيلتنا نتذكرها بين الفينة والأخرى، والكثير منا يعتقد أن تلك الشخصيات الخارقة والطارئة في التاريخ تحدث مصادفة في حقبة ما من الزمن ومرحلة معينة ولكن هذا الاعتقاد غير دقيق لأن واقع الأمر يتيح لنا مقابلة تلك الشخصيات بشكل يومي ولكن لا ندرك ولا نستوعب نظراً لأن تلك الشخصيات يتبخر عبقها وتتلاشى من ذكرياتنا كما تتلاشى روائح الطيب بعد تعطرها. منذ ما يزيد على عقدين من الزمن، أي حينما كنت في مقتبل العمر، قابلت شيخ التواضع والدهاء في مقر عمله، وذلك لتهنئته على ثقة ولاة الأمر بتعيينه نائباً لرئيس هيئة التحقيق والادعاء العام. وعلى الرغم من أن تلك المقابلة لم تتجاوز الدقائق المعدودات إلا أن تأثيرها حرك في مخيلتي مشاعر الإجلال ليس لذلك المنصب لحداثة إنشائه، بل لذلك الإنسان الذي يشع هيبة وإجلالا من خلال مقدرة عجيبة على مزج الدهاء بالطيبة والتواضع لتبرز شخصيته مؤثرة ومتميزة تستقطب التقدير والاحترام من كل من يتعامل معها، ولمحت في ذهني مفارقة عجيبة بين السواد الأعظم من الموظفين الذين تتكون شخصياتهم من خلال المناصب التي يتبوأوونها وبين هؤلاء الشخصيات التي تتكون وتتشكل المناصب من خلالها. وبعد تلك المقابلة، ما لبثت تلك الشخصية أن تبخرت من ذاكرتي كما تبخر عطر العود الذي استقبلنا به في مكتبه المتواضع ولكنه مهيب ووقور بوجود تلك الشخصية، ولكن بقيت نفحات تلك الشخصية وعبقها في غياهب مخيلتي وبقيت تلك المنزلة لأكثر من عقدين من الزمان إلى أن قابلت تلك الشخصية في مناسبة عائلية، ولشدة مفاجأتي بأنه ما زال يواصل الكفاح للوصول إلى ذروة العطاء لخدمة وطنه وولاة الأمر في حياته الخاصة والعامة. وكانت مقابلة مودة ممزوجة بكل تقدير واحترام لتلك الشخصية الوقورة، وسرعان ما تركزت نفحات تلك الشخصية وتبين لي أني أمام إنسان لبيبً زكيً عادل عالم مجرب، وشخصية تتمتع بعقلية قيادية مميزة، إضافة لدهاء وذكاء ممزوج بطيبة وحب الخير مكنه من اجتياز العديد من التجارب والمصاعب والفوز بها. ولد معالي الشيخ في مدينة الزلفي في النصف الأخير من القرن الماضي لأسرة متواضعة الدخل، كما هي شأن أغلبية الأسر آنذاك، وعاش جل أعوام بداية شبابه الأول بعيداً عن أسرته، وبالتحديد في مدينة الرياض، بغرض طلب العلم، وكان من أوائل الطلبة الذي التحقوا بالمعهد العلمي. ومنذ بداية حياته الصعبة والبعيدة عن مدينته وأهله وهو يشعر بالمسؤولية، ليس لذاته ووحدته وغربته فقط بل تجاه كل فرد من أفراد عائلته، فكان يسهم بنصف مكافأته الدراسية والقليلة جداً في المساعدة في إعاشة عائلته ويرسله لهم هناك، ويبقي له فقط النصف المتبقي لمواجهة تكاليف غربته ودراسته، وبعد تخرجه في كلية الشريعة، عاد إلى عائلته والتحق بالسلك التعليمي في مدينته ثم انتقل عمله إلى مدينة عنيزة وقضى فيها بعض الوقت ولكن رغبته الجامحة في العطاء جعلته يتجه مرة أخرى إلى الرياض. وقرر العودة بصحبة عائلته وإخوته الصغار إلى الرياض، وأيقن أنه وجد ضالته حينما التحق بوزارة الداخلية التي مثلت له كما يقول دائماً، مدرسة في الإدارة والحزم، وتبلورت شخصيته من خلال تتلمذه في مدرسة أمير الحكمة والمعرفة والإدارة والحزم الأمير نايف بن عبد العزيز-حفظه الله ورعاه، والذي استهل معالي الشيخ منها تلك الدروس العظيمة وتعلمها. لقد مثلت وزارة الداخلية نقطة محورية في حياة معالي الشيخ وبلورت شخصيته لكونها الأرض الخصبة والمناسبة لمثل هذه البذرة الصالحة والتي نمت وترعرعت في كنف مدرسة أمير الحكمة التي حظي معالي الشيخ بالتتلمذ فيها ونهل صفات جليلة وتقديرا للعمل وحسن إدارة وتدبير وإخلاص وتفانياً في خدمة الوطن. ولقد توج تلك المحاسن والصفات التي أكتسبها من أمير الحكمة بعزم الرجال والخلق الرفيع والكرم والمثابرة والتفاني والإخلاص في خدمة ولاة الأمر والعمل الدءوب والتواضع الجم والشفافية والتسامح، ورصع ذلك التاج باتكال على الله وبتفاؤل مهد له طريقا من نور وأكسبه ثقة المسؤولين في هذه البلاد الغالية وكذلك تقدير الناس لهذه الشخصية العملاقة. وتكمن عظمة معالي الشيخ في مقدرته على اكتساب تلك السمات العظيمة من مدرسة أمير الحكمة وكسائها بشهامته وبضميره الحي وروحه المتأصلة بالمسؤولية تجاه القريب والبعيد، روى أحد الإخوة الميسورين جداً أنه عندما كان صغيراً وبرفقة والده المزارع لبيع محاصيلهم الزراعية من خضراوات في القرى المجاورة، أنهم في ضحى يوم قائض انتهى بهم المطاف وهما متعبان جداً من عناء ذلك السفر في مدينة الزلفي، ولم يتسنى لهم بيع ما معهم من خضروات، نظراً لحالة ''حظر التجول الطبيعي'' في تلك الفترة بسبب لهيب الشمس القاتلة والمعروفة بفترة ''القايلة''، مما يعنى أنهم سيجبرون على قضاء تلك الظهيرة الفائضة إلى ما بعد العصر، وبينما هم يستعدون لمواجهة تلك الأجواء الصعبة وهم متعبون وجياع، إذ يشد أنظارهم منظر غير مألوف في تلك الظهيرة اللاهبة، وإذ بشاب في مقتبل عمره يهلل ويرحب بهم، وتبين فيما بعد أنه معالي الشيخ سليمان الفالح والذي كان يقضي إجازة الصيف مع عائلته، والمعروف عنه أنه منذ صغره كان يطوف المدينة في تلك الأوقات ليلبي لهفة المحتاج أو يستضيف الغريب، واستطرد هذا الميسور قائلاً إنه ومن شهامة وكرم هذا الشاب، أنه حينما أقبل عليهم ولكي لا يبدي لهم أنه مشفق عليهم وخشيته بأن تمنعهم كرامتهم من تلبية دعواه، أبدى رغبته في شراء كل ما لديهم من الخضراوات، ولكن اشترط أن يكونوا ضيوفا عليه لقضاء تلك الظهيرة، ولشدة فرح الابن بتلك الصفقة المربحة وقبول والده بذلك، استضافهم ذلك الشاب في منزل عائلته وجاد عليهم بالموجود وأكرمهم وأراحهم تلك الظهيرة واشترى كل ما لديهم وغادروا مدينة الزلفي بعد عصر ذلك اليوم وهم مكرمون غانمون ويدعون له بالتوفيق، وبقيت تلك التجربة محفورة لدى ذلك الطفل الذي أصبح الآن من أغنياء المملكة، وما زال يتذكرها ويذكرها لأبنائه ومن المقربين من حوله، علهم يحذون حذو تلك الشخصية العظيمة، شخصية معالي الشيخ سليمان الفالح. عندما ذكرت ذلك لمعالي الشيخ أبلغني بتواضع ولطف بأنه يتذكر تلك الواقعة وقال إن تلك عادة معظم أهل القرى والمدن لاحتساب الأجر باعتبار أن الضيف هو ضيف الله، وأن ذلك ليس مستغربا من أي شخص يقوم بذلك فديننا وأخلاقياتنا توجب علينا ذلك من دون مِنة أو معروف، وسألته: من أين لك ذلك المال لشراء كل تلك الخضراوات؟ وماذا فعلت بها؟، أجابني بأنه كان يدخر ربع مكافأته الشهرية أثناء دراسته في الرياض، وذلك لصرفه أثناء إجازته الصيفية عندما يذهب إلى أهله، كما أنه كان يصرف الربع الآخر على حاجياته أثناء الدراسة أما النصف المتبقي من المكافأة الشهرية فكان يرسله لعائلته في الزلفي. أما كمية الخضراوات التي اشتراها فلقد وزعها على الأقرباء والجيران، وهمس في إذني بأن الموضوع قد أعطي أكبر من حجمه، فـ ''حمل'' الخضراوات كلها لم يكلفه أكثر من ريالين، أما استضافة الغرباء فهي واجب يتشرف بتلبيته كل فرد من أبناء البلد، وأن تلك الواقعة وواقعات كثيرة لا يتسع المقام لسردها هنا، لا يريد منها إلا الدعاء له بالتوفيق والمغفرة له ولوالديه، وأن أسباب نجاحاته وتفوقه في حياته الأكاديمية والعملية واجتياز الصعاب نابعة من رضا والديه وسباقه الحثيث لفعل الخير الذي جلب له الدعاء بالتوفيق، وهو متيقن أن حب الخير في عمومياته وفي خصوصياته للقريب والبعيد قد مهد له طريق من نور في حياته العامة والخاصة والمضيئة بالحب والخير. نعم لقد اكتسب معالي الشيخ السمات العظيمة من مدرسة أمير الحكمة وكساها بروح من المسؤولية المتأصلة في ضمير وكينونة معالي الشيخ للقريب وللبعيد، وهذا وجه العظمة في تلك الشخصية وهي المقدرة على إخضاع هذين العنصرين المتنافرين أي الدهاء والطيبه النابع من المسؤولية المتأصلة ومزجهما في بوتقة تفيض منها إطلالة شخصية برداء من التواضع يزيدها الحب والكرم إجلالاً ويتهاطل منها الخير وتستقطب الاحترام لتلك الشخصية الوقورة. من العجائب أن هذا الإنسان لم يتغير ولم يفتخر بنفسه وما حققه من تضحيات وإنجازات للوطن ولولاة الأمر حينما حقق النجاحات تلو النجاحات ولم يتأثر أو يتغير حينما تبوأ منزلاً رفيعاً وثقة عالية من القيادات الوطنية في هرم الأمن والأمان، بل إن ذلك زاده تواضعاً وعطفاً وعطاء، وهذا رديف آخر من جداول تنهمر وتسهم في رفعته في المنزلة، فالعظيم هو الذي لا تغيره المناصب لأنها هي من سعت إليه ولم يسع إليها، فالمنصب في حاجة إلى هؤلاء العظماء أكثر من حاجة العظماء إلى تلك المناصب، فالقليل منا من يأخذ العبرة في هذا النموذج الحي والمؤسسة التي أفرزت فيضا من النجاحات المبنية على روح من المسؤولية والتواضع والمودة وحب الخير تجاه القريب والبعيد، وعلى وجه النقيض. والمفارقة نرى الكثير من الناس الذين يبنون كبريائهم ويشكلون شخصياتهم وتعاليهم على الغير من خلال المناصب، وهم بذلك يظلمون أنفسهم ابتداء لاعتقادهم أن وضعهم لن يتغير أبدا، ويبدأون بالتعامل من ذلك المنظار وبعلية على الآخرين من منظور أنهم تبوءوا منصباً عالياً وأصبحوا أعز نفرا، وبافتقادهم تلك المناصب التي كونوا شخصياتهم من خلالها، سرعان ما تنصهر وتتبخر تلك الشخصيات المتطاولة في جحيم من الواقع الذي هم من تسببوا في إعداده وتشكيله، ويتقوقع حجمهم بعد فراق تلك المناصب ويعيشون في حالة صراعات نفسية يرثي لها وبتجاهل المجتمع لهم وتتجسد فيهم قوله جل وعلى في سورة الكهف(41): '' وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا(42) وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا » (43). لقد حمدت الله ودعوت بوافر الصحة والعافية وأن يطيل الله في عمر هذه الشخصية الفذة ذات المميزات العظيمة الذي حباه الله بها، فهذه الشخصية بحق وحقيقة موسوعة في الحكمة وفي الخلق الرفيع والدهاء والطيبة وكلما أثنيت في حضوره على شخصيته وتجاربه وما حققه من نجاحات كان يردد القول: ''نعم المدرسة مدرسة أمير الحكمة والمعرفة، والحمد لله على ما أنعم الله علينا من صحة في الأبدان وأمن في الأوطان، ويردد قول الله جل وعلى( هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ  وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِه  وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) سورة النمل آية (40) ما أعظمكم وأجلكم من شخصيات وطنية رفيعة، كلما زدتم رفعة زدتم تواضعاً وعطاء.
إنشرها