Author

أزمة الأزمات

|
كاتب اقتصادي [email protected]
«متى وأينما حَلت الأزمة.. إذا استطعت توفير الطعام للناس بصورة طبيعية، فإن الأمور ستتحسن». الأديبة الأمريكية مادلين إنجلي لا أعرف إن كان القادة الكبار يستطيعون الفوز بنوم هانئ، وأزمة الغذاء العالمية تفوق الأزمة الاقتصادية العالمية مصائب وهموما ومحنا؟!. ولا أدري إن كان هؤلاء يتذكرون جوعى هذه الدنيا، وهم يتناولون فطورهم الإنجليزي الدسم، أو الفرنسي ''الأنيق''، أو فطور ''كونتيننتال'' الشامل بعسله وعصيره ومكوناته الأخرى؟!. كلما تناولت قضايا الغذاء والجوع والفقر، أتذكر قول رئيس الوزراء البريطاني الراحل هارولد ويسلون: ''إن أفضل جائزة لرئيس دولة، أن يستطيع النوم ليلة هانئة'' فالمسؤوليات هي أقوى أنواع المنبهات، وعدم الشعور بالمسؤولية هو أقوى أنواع المنومات، وهذه الأخيرة، وإن وفرت نوما هانئا لليلة، فهي تُخلف يوما مرعبا بعدها. وعندما أبلغ القادة العسكريون البريطانيون رئيس وزرائهم ونستون تشرتشل خلال الحرب العالمية الثانية، عن احتمالات نجاح القوات النازية الألمانية باحتلال المملكة المتحدة (كانت قد احتلت فرنسا أصلا)، استفسر تشرتشل (القائد الفعلي لقوات التحالف آنذاك) عن شيئين: متانة القضاء في بلاده، والاحتياطي الغذائي فيها. فقد كان يعرف أن الشح الغذائي، يصيب الصمود بالعدوى، في حرب كان فيها الصمود أقوى أنواع الأسلحة. منذ سبعينيات القرن الماضي، تبدل مفهوم الأمن الغذائي العالمي، وتبدلت معه المشاعر الإنسانية الحارة إلى حرارة الثلج، وأصبحت الرفاهية المحلية أكثر قدسية من إطعام طفل يلفظ أنفاسه جوعا ( في ظل أزمة غذاء عالمي مرعبة)، ومن توفير مياه صالحة حتى للشرب الحيواني فالمياه في بعض الدول النامية ملوثة وكريهة، يعف عنها حتى الحيوان! ولذلك.. لا غرابة في رؤية الأقفاص الصدرية لها ولمربيها بادية للعيان. وأمام هذا المشهد يصعب العثور على مبررات لما يحدث، حتى لو كانت الأزمة الاقتصادية العالمية في أوج ثورانها، وحتى لو كانت الأموال تضخ في المؤسسات والبنوك من أجل بقائها على قيد الحياة، وحتى لو كانت ديون الدول الكبرى تساوي مجموع نواتجها الوطنية، وحتى لو ولدت أزمة هنا وأخرى هناك من رحم الأزمة العالمية الكبرى. وإذا كان لا بد من توصيف ما لأزمة الغذاء العالمي، يمكن القول بسهولة (ومن دون حذر): ''إنها أزمة الأزمات'', دون أن ننسى أنها ولدت قبل الأزمة الاقتصادية، ''متسلحة'' بعمر مديد، يفوق مجموع أعمار الأزمات كلها التي انطلقت منذ منتصف القرن الماضي وحتى يومنا هذا. في العالم اليوم يموت طفل من الجوع كل ست ثوان!. وفي العالم نفسه (وليس غيره) هناك 1.02 مليار جائع, ما يساوي شخصا واحد من كل ستة أشخاص!. وهذا لا يعني أن الأشخاص الخمسة الباقين يعيشون حياة رغيدة. فبينهم اثنان على الأقل يعيشان على دولار أو دولارين أمريكيين في اليوم, أي أنهما مرشحان للانضمام في أية لحظة إلى الجائع الأول. وإذا كنا نتحدث عن ''عالمية'' الجوع، فإن عدد سكان العالم سيصل إلى 9.1 مليار نسمة بحلول عام 2050، وهذا يتطلب زيادة في حجم زراعة الغذاء بنسبة 70 في المائة. والدول النامية تحتاج إلى زيادة حجم الاستثمارات الزراعية السنوية بنسبة 50 في المائة، أو ما يعادل 83 مليار دولار أمريكي سنويا، في حال أراد العالم إنتاج ما يكفيه من غذاء بحلول عام 2050. وتمضي ''منظمة الأغذية والزراعة'' (المعروفة اختصارا بـ ''الفاو'') التابعة للأمم المتحدة، أبعد من ذلك، عندما تقول: ''في حال عدم تخصيص الآن – وليس غدا - مزيد من الأراضي في العالم لإنتاج المواد الغذائية، فإن 370 مليون شخص قد يواجهون المجاعة بحلول منتصف القرن الحالي''!. ولنا أن نتخيل استحالة (ولمزيد من المرونة) نقول: صعوبة تحقيق ذلك، في ظل ظروف مناخية قاسية تقدم القحط على الزرع، وبالطبع في ظل عدم اكتراث عالمي بمستقبل العالم نفسه!. أمام هذا المشهد المخيف، أخفقت الدول الكبرى ومعها الصغرى بالطبع في الوصول إلى نتائج عملية، في تحقيق ''أهداف الألفية'', التي وضعتها الأمم المتحدة في عام 2000، من أجل خفض عدد الجياع إلى النصف بحلول عام 2015. ماذا حدث؟ انضم إلى الجياع أكثر من 100 مليون جائع! فاللقمة التي كان يتقاسمها 900 مليون من البشر، يتقاسمها الآن 1.02 مليار بشري! وفي ''قمة الغذاء العالمية'', التي عقدت في روما في تشرين الثاني (نوفمبر) 2009، بات المشهد المريع للجوع أكثر وضوحا، وأشد وطأة، وأكبر مصيبة. فلا قرارات ناجعة اتخذت، ولا التزامات مسؤولة طرحت، ولا فهم لمستقبل ''اللقمة'' بدا على ساحتها. والنتائج جاءت – كما كان متوقعا – باهتة، لا طعم لها. صحيح أن اجتماعا واحدا لا يمكن أن يحل مشكلة أخذت مكانتها في التاريخ، لكن الصحيح أيضا أن أحدا من الكبار لم يتعاط مع المسألة بصورة استراتيجية, أي أنه لم يحاك المستقبل، في قضية تمثل المستقبل نفسه. لن أتحدث هنا عن الإهانة التي تلقاها العالم، من غياب الأغلبية العظمى لقادة الدول الغنية عن قمة روما ( لم يحضر من قادة مجموعة الثمانية الكبار سوى رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلسكوني، ولولا انعقاد القمة في بلاده لما حضر!) فقد أرسل هؤلاء رسائلهم المرعبة حول مستقبل الغذاء في العالم، بمجرد عدم الحضور والمشاركة، ليس فقط في وضع الحلول المطلوبة، بل وفي قراءة مستقبل الأمن الغذائي بشكل عام, ماذا نتج عن قمة باهتة كهذه؟ وعود عامة بالحد من المجاعة, متى؟ في ''أقرب فرصة ممكنة''!!. والشيء المرعب لا يتوقف انتشاره عند هذا الحد، بل يشمل أيضا عدم طرح الأسباب الحقيقية للأمن الغذائي والمجاعة على جدول الأعمال!. يا إلهي.. قمة عالمية من أجل الغذاء، لا تناقش أسباب المجاعة؟!. ولم ينفع صيام كل من الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، ورئيس منظمة ''الفاو'' جاك ضيوف، لمدة 24 ساعة، في خطوة رمزية تمهيدا لقمة روما فالذي حدث أن الاثنين تضورا جوعا ليوم واحد فقط! وأمام هذه الحقائق المروعة ضاعت قضية ارتفاع أسعار المواد الغذائية، المرشحة إلى الصعود بصورة مخيفة في منتصف عام 2010. وإذا كان ليس مهما البحث في أسباب الجوع، فإن طرح قضية ارتفاع الأسعار يبدو أمرا مضحكا!. هذا الواقع ''برر'' رفض الدول الكبرى الالتزام بجدول زمني للقضاء على الجوع بحلول عام 2025. ولنا أن نعرف ـ على سبيل المثال - أن برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة يحتاج الآن ـ مرة أخرى ليس غدا – إلى مليار دولار أمريكي لإطعام 20 مليون شخص في شرق إفريقيا على مدار ستة أشهر فقط، بينما تحتاج دولة مثل إثيوبيا –وحدها – إلى نصف هذا المبلغ! وبينما تتهم الدول الكبرى بعضها بعضا بتلويث الكرة الأرضية، وتجنب بعضها التعاون للحد من التدمير البيئي والتغيير المناخي، فإن هذا التغيير الخطير يؤدي إلى انخفاض الناتج المحتمل للغذاء في القارتين الإفريقية بنسبة 30 في المائة، والآسيوية بمعدل 21 في المائة! أي أنه يجب ألا يحلم أحد منا بتحسن الأداء الزراعي, لا سيما في الدول التي تحتاج إلى لقمة العيش اليومية، لا إلى ''الكفيار''، ولا إلى ''السلمون المدخن''، ولا إلى ''لبن العصفور''!. إن أهم مصائب أزمة الغذاء العالمي أن الأغلبية العظمى من الدول الكبرى تتعاطى معها كـ ''أزمة اقتصادية''. ولأنها ترتبط باللقمة فهي ليست ''اقتصادية''، بل هي ''أزمة ضمير''، لا يمكن أن تُحل، بمعاول الاقتصاد وحدها، بل بالدافع الإنساني أيضا.
إنشرها