Author

«المتشائلون» الاقتصاديون!

|
كاتب اقتصادي [email protected]
«إذا كنت تعتقد أن أحدا لا يحفل إن كنت حيا أو ميتا.. جرب التوقف عن دفع أقساط سيارتك». لاعب البيسبول الأمريكي روبرت إريل ويلسون ليس مسموحا لشخص بوضعية ومسؤوليات رئيس البنك الدولي روبرت زوليك، أن يكون متفائلا أو متشائما، فيما يرتبط بتداعيات وآفاق الأزمة الاقتصادية العالمية. وليس مقبولا منه أيضا، أن يكون متفائلا حينا، ومتشائما حينا آخر، لأنه ليس على طاولة ''بوكر'' أو '' روليت'' أو '' بلاك جاك'' في إحدى الكازينوهات. فهو يمثل مؤسسة يفترض أنها تتمتع بأعلى درجات من الشفافية والواقعية والحقيقة المجردة.. وبالطبع النزاهة. وهو أيضا بمثابة مؤشر، لما ستؤول إليه الأمور – خصوصا في زمن الأزمات - لا محلل يمكن أن تخطئ توقعاته أو تصيب. هو مثل سائق يقود قطارا، ينبغي أن يعرف بالضبط مواقع محطاته، وفي مقدمتها محطته الأخيرة. والأمر نفسه ينطبق على رؤساء ومديري المؤسسات والهيئات الدولية المعنية بالقضايا الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية. فالخطأ في تقديرات هذه الهيئات، لا يُخيب الآمال فحسب، بل يُوصل الإحباط إلى أعلى قمته، أو يُلون الخراب بأزهى الألوان وأقواها بريقا!، والنتيجة في كل الحالات، لن تكون أقل من مأساة ضمن كارثة. لقد اتبعت بعض الحكومات في العالم – راشدة وغير راشدة- منذ اندلاع الأزمة العالمية، أساليب الإنكار في البداية لبلوغ الأزمة دولها في المرحلة الأولى، والتخفيف من آثار الأزمة – لفظيا لا عمليا - في المرحلة الثانية، والتفاؤل -التسويقي الوهمي - في المرحلة الثالثة. لكن سرعان ما وجدت نفسها، مثل شخصية سعيد أبو النحس، التي رسمها الأديب الفلسطيني الراحل إميل حبيبي في روايته الشهيرة '' المتشائل''. وإذا كان ''التشاؤل'' الفردي يؤذي فردا، فإن ''التشاؤل'' العام يؤذي أمة – بل أمم – بأكملها. ولأن الأمر كذلك، فقد أسرعت الحكومات ''المتشائلة''، إلى الهروب من حالتها المرضية هذه إلى الواقع، الذي ربما لا يضمن لها استمرار شعبيتها – لاسيما في الدول الراشدة -، ولكن بالتأكيد يوفر لمصداقيتها الحصانة المطلوبة الآن أكثر من أي وقت مضى. وإذا كان التفاؤل –غير الواقعي – ينتج وهمًا، كذلك الأمر مع التشاؤم، لكن '' التشاؤل'' لا يؤدي إلا إلى انفصام في الشخصية، في وقت يحتاج فيه العالم، إلى كل إمكانات الشخصية المتماسكة. لا شك في أن بعض دول العالم، شهدت نموا ما في غضون الأشهر القليلة الماضية، خصوصا مع بداية الربع الأخير من عام 2009. لكن هذا النمو ليس طبيعيا، ولا يدخل ضمن نطاق التطور الاقتصادي الذي يكمل المشهد التنموي العادي. هو أشبه بامرأة تحمل جنينها خارج الرحم، ولا أحد يستطيع أن يخمن، إذا ما كان هذا الجنين قابلا للحياة (جنينا أو إنسانا)، قبل أن تتضح الصورة الكاملة للحمل. والنمو الذي يتحدثون عنه الآن، هو في الواقع، عبارة عن توقف الانهيار أو الكساد أو الركود. والحراك الاقتصادي الراهن، لا يستحق صفة النمو، إلا بعد مرحلة الانتعاش. وطالما أن هناك عمليات إنقاذ – لا أقول تحفيز – تجري في كل الأرجاء، تبقى مرحلة النمو سابقة لأوانها. فعلى سبيل المثال، يجري الحديث عن خروج منطقة اليورو ( الدول التي تعتمد اليورو كعملة وطنية لها، ويصل مجموع ناتجها السنوي إلى 8400 مليار يورو) من الكساد. وعلى الرغم من الشكوك التي تلف هذا الخروج الهش، إلا أن الوضع الاقتصادي المتحسن لهذا المنطقة، لا يزال يعتمد على عمليات الإنقاذ، الذي دفعت البنك المركزي الأوروبي، إلى ضخ المليارات من اليورو، لتشجيع الإقراض. وهذا يعني، أن الأموال الحكومية هي التي دفعت الحال إلى التحسن، لا الأداء المتكامل والطبيعي لاقتصاد منطقة اليورو. ولا بد من التأكيد هنا، على أن عمليات الإنقاذ تختلف عن عمليات التحفيز. فالأولى أُطلقت لانتشال الشركات من الغرق، لاسيما تلك التي تُعتبر رمزا من رموز السيادة الوطنية، والثانية لا تُطلق إلا في نطاق الشركات التي استجمعت أنفاسها. والسؤال يبقى: هل استجمعت الشركات والمؤسسات المعنية أنفاسها فعلا؟ وهل بلغت من القوة لتشجيعها، أم أنها لا تزال في أوضاع تحتاج فيها إلى المساندة، للحفاظ على كياناتها؟ ولأن الصورة لا تزال غائمة، والمؤسسات التي أُنقذت لا تزال مضطربة، والوضع بأكمله لا يزال عائما، تبدو التوقعات المتناقضة للهيئات الدولية المعنية حول النمو – خصوصا البنك وصندوق النقد الدوليين – خارجة من اللوحة العامة للاقتصاد العالمي. فعندما يقول رئيس البنك الدولي، قبل أشهر: إن اقتصاد العالم، سيشهد نموا في العام المقبل، ويدعمه زميله رئيس صندوق النقد الدولي دومينيك شتراوس، علينا أن نفرح وتغمرنا السعادة. ولكن ما عسانا أن نشعر، عندما يعود زوليك وشتراوس للقول: إن النمو العالمي يواجه مخاطر التراجع في عام 2010؟! ولأن هذا النمو الذي يتحدثان عنه هشًا، أسرعا للتأكيد على ضرورة ألا يتم سحب إجراءات '' التحفيز'' الاقتصادي في العام المقبل. وإذا كان شتراوس – على سبيل المثال – يرى أن أوروبا لن تشهد انهيارات جديدة للمصارف، كيف يفسر لنا الانهيارات المتتالية للمصارف الأمريكية، حيث بلغ عدد المصارف التي أُغلقت نهائيا في غضون عام واحد 120 مصرفا. أليس لهذه الانهيارات تبعات عالمية؟ أم أن الاقتصاد الأمريكي بات منفصلا عن الاقتصاد العالمي؟! ربما كان وزراء مالية ''منتدى التعاون لدول آسيا والمحيط الهادي'' - المعروف اختصارا بـ '' أبيك'' - البالغ عددها 21 دولة، أكثر مسؤولية من رئيسي البنك وصندوق النقد الدوليين، عندما حذروا من تصور انتهاء الأزمة الاقتصادية العالمية. فهي – حسب هؤلاء - لا تزال موجودة، وأن الموقف لا يزال هشًا، رغم التحسن المالي. وتكمن مسؤولية وواقعية هذا التوجه، أن ما يشهده العالم حاليا، ليس سوى هدنة، ضمن نطاق الحرب الشاملة على الأزمة، ولاسيما أن بعض المسببات الحقيقية التي وَلدت الأزمة، لا تزال على الأرض، في مقدمتها، عدم التوصل إلى اتفاق عالمي نهائي، ينظم الأداء المالي للمصارف والمؤسسات المالية. ومما لا شك فيه، أن أصحاب القرار الاقتصادي العالمي، باتوا يعرفون الآن (بفعل الأزمة) أن الانتعاش ـ وإن تحقق مستقبلا وبصورة واقعية – عليهم أن يعملوا على احتواء المتغيرات التي أحدثتها هذه الأزمة. ولا أبالغ إن قلت، إن الأمر يحتاج إلى عشر سنوات أخرى، لأن السلوك الاستثماري والتنموي تغير في بعض البلدان، وانقلب رأسا على عقب في بلدان أخرى. مع ضرورة الإشارة، إلى أن أنماط الطلب الاستهلاكي تغيرت أيضا وبصورة متطرفة، وإلى التراجع المخيف في وتيرة تنفيذ مشاريع البنى التحتية، خصوصا في البلدان الأقل تقدما. في الأزمات الكبرى، تبرز أزمات من قلبها، إلى جانب الفرص التي تستحدثها. لقد حدث هذا في الكسادين الطويل والعظيم اللذين انطلاقا في الولايات المتحدة في القرنين السابقين. لم ينفع وقتها التفاؤل المستند إلى التمنيات، ولا التشاؤم المرتكز على الخوف. الذي ينفع في مثل هذه الحالات التاريخية، هو التعاطي مع الواقع كما هو، إلى جانب – بالطبع - التعاون الدولي الشامل. فالأزمة لم تكن خاصة بالولايات المتحدة – وإن انطلقت منها – ولا بالاتحاد الأوروبي، ولا بالصين أو الهند أو غيرهما من الدول. هي أزمة جمعت العالم تحت عباءة واحدة. عباءة مليئة بثقوب الجشع والاحتيال والخوف والإحباط .. والأمل أيضا، لا يستطيع حتى أمهر الخياطين ترقيع هذه الثقوب بمفرده، فما بالك برَتيها. إنها مسؤولية أمم بأجمعها، ومسؤولية حكماء – لا ملهَمين - يعرفون متى يتفاءلون ومتى يتشاءمون.. وأيضا.. متى لا ''يتشائلون''. حكماء يعرفون أهمية التحرك، ليس فقط لمواجهة الأزمة، بل أيضا للحيلولة دون اندلاع أخرى. فالعالم أُجهد بما يكفي من أزمة، أزاحت مسرات وهمية، وجلبت أحزانا واقعية.
إنشرها