Author

سرطان «وول ستريت»!

|
كاتب اقتصادي [email protected]
«في الكونجرس .. كل نكتة هي قانون، وكل قانون هو نكتة» الممثل الفكاهي والمعلق الأمريكي ويل روجرز لم يكن المخرج الراديكالي الأمريكي مايكل مور متحاملا أو متجنيا على سوق المال والأعمال الأمريكي الشهير «وول ستريت» عندما وضع شريطا على مبنى هذه السوق في فيلمه «الرأسمالية.. قصة حب»، كتب عليه «مسرح الجريمة». ولو وضع الشريط نفسه على البيت الأبيض في واشنطن، لما خرج عن النص. فـ «راديكالية الجريمة» التي ارتُكبت في هذه السوق، أجازت راديكالية المخرج وخففت من عنفها، حتى عند أولئك الذين يرون في التشدد أشياء لا تواكب تطورات العصر، ولا تحاكي متطلبات المستقبل. الجريمة ارتُكبت في «وول ستريت» لكن ضحاياها وقعوا في كل الأسواق، وأوقعوا معهم أشد الصروح منعة، وأكبر الخطوط الدفاعية قوة، بعدما نالت من الأسس التي يقوم عليها المجتمع الدولي قاطبة. وعندما تخرج الجريمة عن نطاق مسرحها، تتحول إلى أزمة محلية، وعندما تمتد أكثر تتبدل إلى مصيبة وطنية، وعندما تتجاوز إطارها المحلي – الوطني، تصبح كارثة دولية – تاريخية، لتكون قضية «هم عام»، لا رأي عام. في عالم الجريمة، يقع المجرمون في أيدي السلطات، ويُلاحق من استطاع منهم الإفلات إلى أن يقع، ليمثل أمام عدالة الأمة. لكن مجرمي «وول ستريت» الذين وقعوا لم يقفوا أمام هذه العدالة، وأولئك الذين لم يقعوا بعد، لا يزالون يقاومون محاولات القبض عليهم - إن وجدت أصلا ــ ويحرصون في الوقت نفسه، على إبقاء ما أمكنهم من «الكتل» السرطانية داخل السوق، والسعي الدائم لنشرها على أوسع نطاق، وبأقل ضجيج ممكن. ولعل هذا النوع من المجرمين، هم الوحيدون الذين يقاومون الوقوع والنهاية، بالحفاظ على السوق ملوثة ومصابة، لا عن طريق التخفي. وهم بذلك يحاولون ــ بكل الوسائل ــ حماية ما تبقى من «أيديولوجية وول ستريت»، التي كان من المفترض أن تسقط في أعقاب اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية، ولو لم يكن هناك «ملهمون اقتصاديون حكوميون»، لسقطت هذه الأيديولوجية قبل وقوع الأزمة نفسها. فأغلبية حكومات الدول صانعة القرار الاقتصادي العالمي، كان تتعاطى مع هذه السوق و»زميلاتها» الأخريات، على أنها منزهة عن الأخطاء، ومنيعة من الانهيار، وطاهرة من الآثام .. وقبل هذا وذاك، قوية لا تهزها حتى الزلازل الكبرى! بل وقفت هذه الحكومات في وجه أولئك الذين طالبوا فقط بضرورة فرض رقابة ــ ولو مستترة ــ على هذه الأسواق. لقد دمر «سرطان وول ستريت» كل شيء، بما في ذلك الأخلاق، وهز أركان الدولة الاتحادية الأمريكية، وشنت قوة الإدارة المركزية لهذه الدولة، إلى درجة دفعت تيارا انفصاليا في عدد من الولايات الأمريكية، للمناداة برفض تطبيق القوانين الاتحادية، لأن الجهات التي تصدرها لا تَحُكم نفسها، بل تُحَكم من «مسرح الجريمة» في «وول ستريت». وقد شعرت إدارة الرئيس باراك أوباما، بآثار العمليات الاحتيالية والوهمية التي تجري في هذه السوق، حتى في أعقاب وقوع الجريمة. فلا تزال مؤسسات أمريكية كبرى تقاوم .. وتقاوم ما أمكنها من القواعد التنظيمية لنشاطاتها وأعمالها. ولا تزال السوق التي تحتضنها تعج بـ «المضاربات المتهورة»، التي كانت ــ لمن نسي ــ السبب الرئيس في انفجار الأزمة. وهذا ما دفع أوباما، إلى إطلاق حملة «توبيخية» جديدة لمؤسسات «وول ستريت»، لعدم تقدمها خطوة واحدة باتجاه تشجيع الإقراض للشركات الصغيرة، التي وضعتها الأزمة، في صف المنقذين المؤهلين للاقتصاد الوطني، ولأنها لم تتعلم من «تجربة الأزمة». صحيح أن خطط التحفيز (الإنقاذ) التي وضعتها الإدارة الأمريكية السابقة والحالية، لم تنضج بعد، وتحتاج إلى مزيد من الوقت، لكن الصحيح أيضا، أن تعاظم مقاومة الإصلاحات في «وول ستريت»، تسهم في إبطاء تسارع مركبة الإنقاذ، التي تسعى إلى منع حدوث انهيار مالي جديد، يمكن أن يدمر ما تبقى من الاقتصاد المحلي والعالمي أيضا. والواقع أن مقاومة «ملهمي» – أو مجرمي «وول ستريت» لا فرق ـ لا تنحصر في الإجراءات الرقابية أو التنظيمية التي وضعت في أعقاب الأزمة، بل تشمل أيضا القوانين المزمعة التي لا تزال في أروقة مجلس النواب الأمريكي. وهذه القوانين هي بمثابة «سلاح دمار شامل» لهؤلاء. لماذا؟.. لأنها ستأتي بآليات تشدد القيود على تداول الأوراق المالية ومشتقاتها، وستؤسس لجهة رقابية استهلاكية جديدة للمنتجات المالية برمتها، وستضع إصلاحات تنظيمية ستضمن متابعة – وبكلمة أكثر ملاءمة : تتبع - كل المؤسسات المالية كمجموعة موحدة. أي أنها لن تُبقي «الحبل على الغارب»، في مسألة القروض المنفلتة ولا الإقراض الذي يستند إلى ضمانات وهمية، ولا التداول المالي – وغيره - وفق قواعد «المقامرة»، هذا إن وجد لـ «المقامرة» قواعد أصلا. بمعنى آخر، أن القوانين المزمعة، لن تترك مساحة للتحرك، أمام أولئك الذين عملوا- على مدى عقدين من الزمن - « البحر طحينة»، حسب المثل المصري الشهير! القضية ليست مرتبطة فقط بمدى مقاومة مَن تبقى من «مجرمي» السوق في أماكنهم، لما طرح وما سيطرح من قواعد وقوانين وضوابط ورقابة وغيرها. بل تتعلق بوجود هؤلاء أصلا في مواقعهم، ومدى تأثيرهم في الحراك التنظيمي ــ الإصلاحي الذي تسعى الإدارة الأمريكية إلى تطبيقه، قبل فوات الأوان، ولا سيما بعد معاناة من « فوات أوان» أفضى إلى كارثة يعيشها العالم أجمع الآن، رغم كل ما يقال عن الانتعاش البطيء أو التعافي المتوقع في العام المقبل. إن القضية تتطلب ــ إضافة إلى قوانين وإصلاحات ومراقبة ومتابعة ــ إقصاء تاما لهؤلاء عن الساحة الاقتصادية في «وول ستريت» وفي البلاد كلها، وإعادة تقييم أولئك الجدد الذين دخلوا السوق في أعقاب الأزمة. فأغلبية هؤلاء هم من تلاميذ «الملهمين – المجرمين» السابقين، ولن يرضوا بأرباح وإنجازات واقعية، فقد أدمنوا على «استثمارات الفقاعات». وعلى هذا الأساس، فعملية «الغربلة» للكوادر الجديدة، تبدو مسألة ملحة الآن. لماذا؟ لأن سن القوانين، لا يرتكز نجاحها وتمريرها على المُشرعين فقط، بل على المعنيين مباشرة في تنفيذها أيضا، وهؤلاء يستطيعون – كما يحدث في الوقت الراهن - «سن» قوانين سرية مقاومِة. ولأن العلاج الأمثل والأجدى لمقاومة السرطان هو استئصاله، على إدارة الرئيس الأمريكي، أن تبدأ عملية استئصال جديدة، وعليها أن تعرف أن «التوبيخ الدوري» الذي توجهه لهؤلاء، لن يسفر إلا عن «مانشيتات» باهتة لوسائل الإعلام. يقول رئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرتشل، في وصف عنيف للاقتصادي الجشع والمحتال والنصاب: « نكون غير أخلاقيين، لو تركنا هذا المصاص يحتفظ بأمواله». وهذا ينطبق على من كانوا – وبعضهم لا يزال – يمسكون بزمام الأمور في الأداء الاقتصادي العام والاستثمارات المالية وغيرها – ولا سيما في سوق وول ستريت - وفق «قواعد» المقامرين، وأحيانا على طريقة قطاع الطرق. لكن الأهم من هذا، ألا يستمروا في الحفاظ على مواقعهم، بما في ذلك أولئك الذين أتوا من تحت عباءاتهم، وولدوا وظيفيا في مكاتبهم. لا .. لا ينفع التوبيخ، ولا التشهير، ولا حتى العقاب، فالذي ينفع هو إخراج هؤلاء من غرفة القيادة الاقتصادية - المالية. وإذا كان أوباما يعمل على تكريس التعاون الدولي في مواجهة الأزمة التي ارتكبتها «وول ستريت»، ونشرت حممها في كل الأرجاء، عليه أن يقنع المجتمع الدولي، بأن «مسرح الجريمة»، بات خاليا من المجرمين، بعد أن خلت البلاد من الإدارة السياسية التي وفرت لهم أقوى حماية، قياسا ببقية الإدارات الأمريكية الأخرى، التي أسهمت هي الأخرى ــ بشكل أو بآخر- بتوفير أنواع أخرى من الحماية. إنها مسألة استئصال.. لا توبيخ، وقضية وجود.. لا توزيع أدوار. وإلى أن يتم العمل وفق هذا التوصيف، ستظل «المانشيتات» الباهتة على الساحة، وسيواصل السرطان انتشاره بخبث.
إنشرها