Author

الخطاب .. كيف نحلله ونستوعبه؟

|
أستاذ جامعي ـ السويد
في هذه الرسالة سنترك السويد ونخوض في موضوع حساس يهمنا جميعا وصار اليوم يزحف نحونا زحف الجيوش الجرارة صوب غريم أعزل, أقول أعزل لأن الغريم لا خبرة ولا سلاح له لمواجهة هذا الزحف. والخطاب اليوم بمثابة جيش جرار سلاحه ليس السيف بل الكلمة. والوضع الذي تأخذه الكلمة في الجملة وكيفية انتقائها يشبه إلى حدّ كبير الوضع الذي تأخذه الجيوش قبل المعركة والصراع الذي يدور اليوم حول الخطاب يفوق في كثير من الأوجه الصراع على حقائب وزارية حساسة كالدفاع لدى دول مثل إسرائيل وأمريكا. وفي لقاء أجريته في لندن مع توم فنتون, مدير مكتب ''سي إن إن'' في إسرائيل سابقا والمنتج التنفيذي لأوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا حاليا, قال: ''الخطاب بالنسبة إلى إسرائيل جبهة حرب لها من الأهمية ما للجبهات الأخرى''. كان فنتون يقصد الإعلام, والإعلام خطاب, وهو الذي دخل بيوتنا لا بل احتلها, ووسائله آخذة في التوسع والتطور بحيث أمسينا بمثابة عبيد أمام سيد طاغ لا حدود لطغيانه, والإعلام فنون وتكتيك واستراتيجية وقتال مستميت ليس على تلة استراتيجية بل على لفظة ومكان هذه اللفظة في الجملة. والإعلام العربي المنشغل بمعاركه الداخلية وتوجهاته المصلحية لا يستطيع مجاراة الإعلام الغربي ودهاء منظريه واستراتيجيات القائمين عليه. الخطاب الإعلامي الغربي ليس عشوائيا, إنه خطاب مدروس نقع جميعا ضحية له دون أن نعلم. وبغياب التحليل العلمي من أجل استيعابه نعتقد أنه نابع من حرية التعبير والكلام وحرية الصحافة والإعلام. ولنأخذ المثال النحوي العربي الشائع للدلالة على كيفية توجيه الخطاب من أجل تحقيق مآرب بعيدة كل البعد عن البلاغة والأسلوب والفروقات النحوية. الفرق اللغوي بين الجمل الثلاث التالية يستوعبه أي قارئ عربي اللسان. الأولى فعلية, الفاعل فيها معروف والثانية مبنية على المجهول فاعلها غير معروف والثالثة اسمية الفاعل فيها مجهول والفعل غائب. 1. ضرب زيد عمرا 2. ضُرب عمرو 3. عمرو مضروب ... في علم الخطاب النقدي التحليلي نخطو خطوة أو خطوتين أبعد من الإعراب. الاهتمام لا ينصب على موقع الكلمات السبع في الجمل الثلاث من الإعراب. الإعراب متأثر كثيرا بالفلسفة التي دائما تبحث عن ''ما هو هذا الشيء'' في علم الخطاب, والذي لي فيه مساهمة متواضعة, نبحث عن كيف ولماذا صار هذا الشيء. وبما أن اللغة تمنحنا الفرصة لاختيار اللفظة وموقعها من الإعراب, أي أن اختيار الخطاب تقع مسؤوليته على الكاتب, من حقنا أن نسأل: لماذا أخفى الكاتب أو المتحدث الفاعل في 2 و 3؟ زيد وعمر يضرب الواحد الآخر منذ نشوء الدراسات النحوية في اللغة العربية في مستهل العهد العباسي حتى اليوم. ولكن الضرب فنون ربما كانت مخفية قبل ظهور علم الخطاب التحليلي. وفن اختيار اللفظة وموقعها من الإعراب لا يظهر للعيان إلا عند مقارنة الخطاب الذي يستخدمه الغرب ''المسيحي'' لوصف أعماله وأعمال الآخرين ولاسيما العرب المسلمين. وهاكم بعض الأمثلة: 4. مقتل عشرة فلسطينيين في غارة على غزة. 5. مصرع 20 عراقيا في قصف طائرة دون طيار. 6. سائق فلسطيني يدهس طفلة إسرائيلية. 7. انتحاري يفجر نفسه في سوق في بغداد ويقتل 15 بينهم أطفال. نعوذ بالله من شر الخطاب الذي ينقل حوادث قتل الأنفس البريئة, ولكن هناك تضليلا وتشويها لحقيقة كيف ولماذا صار الشيء هكذا في الجملتين 4 و 5. في هاتين الجملتين الضحايا هم عرب مسلمون ولكن الجاني مخفي. في 6 و7 الجاني عربي مسلم معلوم ويحتل صدارة الجملة. إنها ليست مسألة إعراب. إنها مسألة سلطة وقوى وطغيان التي جرى توظيفها في الخطاب بشكل ذكي ينطلي على أغلبية متلقي الخطاب. ومن خلال توظيف خطاب كهذا في الإعلام الغربي الناطق بالإنجليزية والعربية أصبح العرب المسلمون, ضحايا العدوان, هم القتلة والقتلة الحقيقيون هم الضحايا ليس في عيون الغرب فقط بل عند كثير من العرب أيضا لأن الخطاب العربي بمجمله واقع تحت سطوة الخطاب الغربي ويتقبله على علاته. قبل 1400 سنة حثّ قس بن ساعدة أبناء جلدته من العرب أن يسمعوا ويعوا. الوعي هو الوسيلة التي يجب أن نحلل ونستوعب الخطاب بها. والقراءة هي اللفظة التي يفتح عليها عينيه أي مسلم لأن قرآنه يبدأ بكلمة اقرأ. ولنذكّر أنفسنا والقراء الكرام بآيات كريمات من سورة العلق ونختتم بها هذه الرسالة وندع مقاربتها لشؤون علم الخطاب الحديث لهم: ''اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم. إن الإنسان ليطغى. أن رآه استغنى''. نلتقي وإياكم في الجمعة القادم.
إنشرها