Author

ما يجمع السعودية والسويد وما يفرقهما

|
أستاذ جامعي ـ السويد
وعدنا القراء الأعزاء بأن نتحدث في هذه الرسالة عن العلاقة بين الإسلام والثقافة، وكيف يؤثر أحدهما في الآخر. ولكننا قبل الولوج في هذا الموضوع الحساس وبالغ الأهمية, علينا دعم الرصيف النظري الذي وضعناه لهذه الرسائل، مركزين على دور اللغة في تكوين الثقافة وتأثيرها في نظرتنا ونظرة الآخرين إلى العالم. اللغة أمّ العلوم، ولولاها لما كان بإمكاننا أن نميّز أنفسنا عن سائر خلق الله. والله سبحانه وتعالى لجأ إلى اللغة التي يتحدث بها رسله وأنبياؤه والشعوب التي شاء سبحانه أن تصل الهداية إليها أولا. وعندما شاء الله أن يبلّغ رسالته للعرب في الجزيرة العربية لجأ إلى اللغة العربية. اللغة بنت محيطها, تؤثر فيه وتتأثر به. وسأسوق بعض المقارنات البسيطة بين العربية والإنجليزية لتبيان هذا التأثير المتبادل، ولنأخذ المناخ كمثال .. لا شك هناك اختلافات جوهرية بين مناخ الجزر البريطانية، حيث نشأت اللغة الإنجليزية، والجزيرة العربية, المحيط الذي نشأت فيه اللغة العربية، المناخ في الجزيرة العربية جاف وحار جدا، لدرجة أن الناس تخشى قدوم الصيف. أما المناخ في الجزر البريطانية فرطب وممطر وقارس البرودة، لدرجة أن الناس تخشى الشتاء وتقيم الاحتفالات بقدوم الصيف. هاتان الظاهرتان المناخيتان المختلفتان تؤثران لغويا وثقافيا في نظرة الشعبين إلى أمور أخرى مثل الليل والقمر والشمس والنهار، فمثلا: ''أتمنى لك صيفا سعيدا, وصيفك مبارك'' عبارات محبّبة ليس في الإنجليزية فقط، بل في معظم اللغات التي نشأت في مناخ مشابه من ضمنها السويدية. وبإمكاننا أن نقيس على ذلك ونقول إن معظم الكلمات والعبارات الإنجليزية أو السويدية التي تشير إلى الصيف والحرارة والدفء عبارات وكلمات مستحبة. شعراء الإنجليزية الكبار من أمثال شكسبير وملتون وكيتس، يستعيرون الصيف و''يوم صيفي'' لوصف الحبيبة. ورطوبة المناخ وكثرة البحيرات أسهمت كثيرا في الطريقة التي ينظر بها الإنجليز والسويديون إلى الطيور مثلا. الأوز والبط والبجع والبطريق والنورس طيور محببة في الإنجليزية تطلق أسماؤها على المطابع والشركات والمؤسسات. في العربية لنا ميل معاكس. العرب تحبّذ التشبيه بالقمر والليل والكلمات والعبارات التي تشير إلى البرودة. ''قرير العين، أو ثلج صدري، أو ثلجت نفسي'' عبارات محببة، بينما ''سخن العين أو سخنت عينه'' عبارات غير مستحبة، لأنها تدل على الحزن وانقباض النفس. وطيور العرب المحبّبة غير طيور الإنجليز، فالعرب تحب الصقر والباز والعقاب وتطلق أسماءها على الشركات والمطابع والمؤسسات. العرب تحب الإطناب وتطلق العنان للخيال. رؤيتهم ونظرتهم النابعة من طبيعتهم الصحراوية لا يعوقها الضباب والجبال والغابات. وكم يتلذذ تلامذة المدارس عند قراءتهم وحفظهم هذه الأبيات الشعرية الخالدة: إذا بلغ الفطامَ لنا صبيٌ تخر له الجبابر ساجدينا ملأنا البر حتى ضاق عنا وماء البحر نملأه سفينا من المحتمل أن عمرو بن كلثوم لم ير البحر في حياته، ولكن قصيدته هذه كانت على لسان أبناء قبيلته، لدرجة أن شاعرا آخر عابهم عليها قائلا: ألهى بنو تغلب عن كل مكرمة قصيدة قالها عمرو بن كلثوم لا نستطيع أن نلغي تأثير المحيط الذي عاش فيه الشاعر على هذه المبالغة الهائلة والبعيدة عن الواقع في البيتين أعلاه. ولكن السؤال الذي يؤرقنا هو: إن كان لا يزال للتغلبي هذا الذي لم يلحق الإسلام تأثير في خطاب العرب المسلمين في العصر الحديث، فكيف يستوعبه آخرون من ثقافة غير ثقافتهم؟ سنأتي على ذلك في رسالة مقبلة ـ إن شاء الله. هناك دراسات أكاديمية رصينة في هذا الخصوص، ولدي مساهمة متواضعة فيها. ولكن ما يهمنا كيفية استخدامها لاستيعاب ثقافتنا وثقافة الآخرين. هل في إمكاننا استنباط قواعد من الدراسات اللغوية والثقافية هذه لفهم نظرتنا ونظرة الآخرين للعالم؟ من خلال تجربتي المتواضعة أقول نعم بإمكاننا أن نضع قواعد أو كراماتيك للثقافة، وقد لا تكون هذه القواعد مشابهة لقواعد اللغة (مسند ومسند إليه, جملة خبرية وجملة اسمية, وفاعل ومفعول ...)، ولكن منهجيّتها تساعدنا كثيرا على فهم أنفسنا والآخرين. لاحظ هذه الجمل، هل تستطيع الإجابة عليها بـ ''لا ضير في ذلك'': وضع حذاءه تجاه وجهي على الرحلة. قبّل يد زوجتي. قطتي أفضل لي من أبي. أنا والكلب ننام سوية على الفراش. اعذرني عزيزي القارئ إن كنت قد أثرت غضبك بهذه الجمل، ولكن أود أن تعلم أن جواب أي سويدي أو أي شخص منتم إلى الحضارة الغربية سيكون على الأكثر ''لا ضير في ذلك''. هل نستطيع استخدام الرصيف النظري الذي بنيناه إلى الآن لمساعدتنا على استيعاب ثقافتنا وثقافة الآخرين؟ وهل يساعدنا على بحثنا عن خطاب إسلامي يتحدث بلغة معاصرة ويقارب قضايا الثقافة والمعاصرة وقضايا الزمن وقضايا العصر وتحدياته؟ .. وإلى الرسالة المقبلة. أستاذ اللغة والإعلام جامعة يونشوبنك - السويد
إنشرها